الدولفين ونسق التمرّد على الواقع
محمد جبير
يلتقط عدنان منشد في روايته «الدولفين» بذرة الفساد في إنشاء المدن الفاسدة، تلك البذرة التي تنتجها أنظمة فاسدة وإن اختلفت مسمياتها وتوجهاتها، هذه البذرة كانت، وما زالت، تنمو وتكبر أمام أعين كتاب السرد وتآلفوا وتعايشوا معها، حتى إن بعضهم تماهى مع هذه البذرة، وعدها أمرا واقعا لا بد منه، ولم يتوقف أمامها متأملا خطورة الأمر. عدنان منشد، بعد أول نصّ قصصي نشره في منتصف السبعينات من القرن الماضي، كان متأملا فساد تلك البذرة، وراصدا تضخمها، ومدركا ومتوقعا نهايتها.
وأدرك، أيضًا، أنّ هذه الديستوبيا هي في النقيض تمامًا مع اليوتوبيا التي كان يحلم أن تكون بعد رحلة عناء وشقاء ونضال من أجل إشراقة فجر حلم مؤجل، هذه الخيبة المتتالية التي تجسّدت في حركة الشخصيات ضمن الفضاء السردي للحكاية، والتي تقودنا إلى مناقشة مجموعة من الأسئلة التي يثيرها النصّ، ألا وهي: كيف نظر عدنان منشد إلى سرديات الواقع ما قبل وبعد 2003؟، وما المنظور السردي الذي تمّت فيه قراءة تحوّلات الواقع، وتحوّلات الشخصيات ضمن حركة الواقع؟، وما محفّزات تلك المتغيرات على حركة السرد وتناميه؟.هذه الأسئلة، وأخرى غيرها، يثيرها نصّ “الدولفين” تكشف عن رؤية الكاتب للواقع وحركة الأحداث التاريخيّة التي امتدّت على زمن السرد الذي تجاوز أكثر من خمسين عامًا، ورصد المقدّمات ونتائجها، فقد وقف الكاتب في لحظة تأمّل كلّ الصور والحكايات والأحداث التي مرّت عليه ليجلس خلف مائدة الكتابة، مديرًا ظهره لكلّ ما قد يشغله عن فعل الكتابة، تأمّل زمنه في ماضيه الذي أبحر في نهاراته ولياليه، مغامرًا ومكتشفًا ومنتميًا إلى الصراعات السياسية بصلابة الرجل الذي قبض على جمرة مبادئه، وأضاء فيها ظلمات ودهاليز وعي مخدّر بالأساطير والمشاعر والأحاسيس والأحلام التي تقفز على الواقع، لم تنطفئ في داخله شعلته الوهّاجة الساعية للتغيير.
وما بين روح الانتماء الصلبة، والخيبة على أرض الواقع، بقي ذلك الإنسان يحلم ولو بجزء يسير من حرّيته وتحرّره من خوف وبطش الأنظمة الاستبداديَّة، فقد امتدَّ الزمن السردي في استرجاعه على امتداد عمر منتج النصّ، والذي شهد الخيبات والخسارات ومرارة تلك الأيّام، ومرّ شريط الأحداث سريعًا عبر ذاكرة حيّة خلّاقة، أسهمت في تصاعد تلك الأحداث إلى الذروة المطلوبة في ختام النصّ، لكن لحظة التأمّل واسترجاع إنتاج النصّ لم تكن لحظة استرجاع سيري، وإنّما استرجاع خلق الواقع من جديد بعد تفكيك وحداته الاجتماعية حيث متغيّرات النظام السياسي، راصدًا لحركة التحولات، مرتكزًا على أن لا يمكن للسرد أن يكون الثلاثية الزمنية الحاضر والماضي والمستقبل، إذ تشكّل الانتقالات جوهر الكتابة السردية، وكما يرى محمد برادة “الزمان في مختلف تجلياته متجدد ومتحوّل، فإنّ الرواية التي هي خطاب الزمان بامتياز بنية تلتقط التحولات وهي نفسها بنية تحويل”. “محمد برادة/ أسئلة الرواية/ ص27».
واذا ما ذهبنا إلى أنّ سردية الدولفين، هي من سرديات التحول الذي يرتكز على ثلاثة أنماط نسقية، هي نسق التمرّد والكشف والرفض، فإنّها تجد نفسها متجانسة مع منتج النصّ، كأنّ السارد في سرديات الأنا يسعى ضمنًا إلى تأكيد خطاب منتج النصّ الرافض للواقع في مرحلتيه ما قبل وما بعد، “وهناك واقع يراه كلّ الناس ويدركون بشكل فوري ومباشر، واقع معروف ومدروس ومحدد، واقع اجترته أشكال تعبيرية أصبحت نفسها معروفة ومسطّحة لكثرة تكرارها”. “ناتالي ساورت/ الرواية والواقع/ ترجمة: رشيد بنحدو/ دار الشؤون الثقافية - بغداد - 1990/ ص16».
وتؤكّد ساروت أيضًا على “أنّ الكتابة الروائية عملية بحث دائم، وهذا البحث يسعى إلى تعرية واقع مجهول، وإلى إيجاد هذا الواقع المجهول”. “ناتالي ساروت/ م .ن/ ص15».
وهذا في حدّ ذاته، يفسّر لنا فترة الانتظار الطويلة التي مارسها الكاتب في رصد واقع مرئي، لاكتشاف واقعه السردي المجهول الذي يمكن للمتلقّي أن يتعرّف على قراءة الكاتب للواقع الذي تجسّد خلقًا إبداعيًا على أنقاض واقع مرئي، وهو ما يمثّل خطاب منتج النصّ، فالروائي يرفض أن يكون مرآة عاكسة أو وسطًا ناقلًا للمرئيات الواقعية، حيث لم تعدّ هذه الأمور من صلب الكاتب المبدع، وإنّما صارت وظيفة الرؤيا، وكيفية التفكير والتعبير عنها، هي ما يشغل ذلك الكاتب الذي يسعى إلى تميّزه وتقديم كشوفاته الواقعية للاواقع.
لكن كيف أمسك منشد بالبذرة؟ وكيف أنبتها؟ لتشكّل في النهاية شجرة وارفة الظلال، ولم يبتعد عن مهارته الدرامية في اصطياد لحظة التبئير للحدث التي تأخذ في الانتقال المتناوب في الزمن السردي، لتكون الفاعليّة الدراميّة أشدّ حرارة وتوهّجًا في تفاعلات النصّ تجاه متغير مسارات الحكاية السرديّة، فقد كانت الحكاية السرديّة تمور في داخله سنوات وسنوات باحثة عن الوعاء الذي تتشكّل فيه، لترسم حياة جديدة تختلف كلّيًا عن حياة الواقع المرئي.
يفتتح نصّ “الدولفين” بالآتي “يخلعون عليَّ لقب الدولفين، ولِمَ لا؟ طالما أنَّ الحياة تصعد بك من سافل إلى أعلى، ثم تنزلك الى أسفل سافلين”. “الرواية ص7”، هذه الجملة التي يستهل بها لافتتاح النصّ، ليست جملة وصفية أو ممهّدات لحدث ما سيقع لاحقًا ويكون له دور فاعل في المتن الحكائي، وإنّما هي جملة حدث متراكم خرج بصيغة مسمّى للشخصية الساردة، وهذا المسمّى ليس بالغريب عن المتلقّي، وإنّما يشكّل واقعًا كائنًا بذاته، وترتبط به جملة من الأحداث سوى الزمن الحاضر “زمن السرد” داخل النص، حيث تحفّز هذه الجملة صيغة التشارك والتجاوب بين السارد والمتلقّي في خلق الوحدات الجزئية للحكاية مقابل تشكّلها الكامل في لحظة توقف السارد في ختام الرواية “غادروني فجأة.. لا أستطيع سماعهم، أأستطيع أن أسمع، لم يكن هناك ألم حيث الأذن المقطوعة.. فقط أشعر ببرودة كما لو أنّ أحدًا ما وضع قطعة ثلج كبيرة على الجانب الأيسر من رأسي، ثمّ رأيتهم يذهبون كأيّ أفراد يائسين من الرجال المسلّحين المنضوين تحت اسم المليشيات المسلحة”، ويسترسل منشد في رسم نهاية البرفسور السارد “تدبّرت أمري ووقفت، الغريب أنّي لم أشعر بسوء، مشيت طويلًا، ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب، ما هو مصير سيارتي الدولفين الممهورة باسم ميت، ما الفائدة من عودتها إليَّ طالما أنّها لم تمهر باسمي.. غاب الجميع.. الحاج فلاح الضبع، مالك الوزان، ياسمين، جمال الحنظل، كلّ أولئك الساقطين المتهافتين الذين صنعوا مغامراتي الشيّقة، غاب بلاسم بداخلي وسكت، فغمرتني راحة مفاجئة، شعرت بعدها بالفراغ يلفّني، بعد حين توسّدت فراغي، ونمت في نومي”. “الرواية ص 120».
هدفت إلى غرض إيضاحي في اختيار هذين المقطعين في الخاتمة للوقوف عند بعض المفردات التي تقدّم دلالة خاصّة لواقع الحال أو للحالات الرمزيَّة، فالمشهد الختامي رسم بعناية فائقة ليتوّج النصّ بطلقة الرحمة على فساد الروح والحياة والأفكار في المدن الفاسدة في ظلّ أنظمة فاسدة، تحتقر إنسانية الإنسان وتسلبه حريته في الحياة، ففي المقطعين السابقين ترد المفردات التالية “الأذن المفقودة، أفراد مسلحون، ميليشيات”، هذا في المقتبس الأول، أمّا في المقتبس الثاني فإنّنا نرى “مصير الدولفين، ممهور باسم ميت، عودتها، غاب الجميع، بلاسم، النوم”، وهذه المفردات تحيل إلى زمان ودلالة خاصّة بها، سوف تكشف للمتلقّي الأبعاد الواقعيَّة المنظورة التي تشكّل ذاكرته الصوريَّة، فالدولفين على سبيل المثال يحيلنا إلى فترة الحصار في القرن الماضي، بينما تحيلنا مفردة المليشيات إلى الزمن الحالي، ولم يكن منتج النصّ بغافل عن دلالات تلك المفردات التي أراد أن يتشارك بها مع المتلقّي لغرض تبيان مديات الخطاب السردي التي ارتكزت على التمرّد، الرفض، الكشف، وهو ما نهض به السارد في رحلته الصعبة في تحوّلات الحكاية السرديّة، وما قام بخلقه منتج النصّ على أنقاض الواقع المرئي.