كم هو مخيف وجه الفاشية

ثقافة 2023/09/24
...

 ترجمة: كامل عويد العامري

عن اللوموند  الجمعة - الأول من أيلول: سبتمبر 2023
لقد استغرق الأمر خمسين عاما قبل أن تثبت العدالة التشيلية أن قتلة المغني والملحن فيكتور جارا، الذي قتل في اليوم التالي لانقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه في عام 1973، مذنبون بشكل نهائي. ففي يوم الاثنين 28 أغسطس/آب، أيدت المحكمة العليا الأحكام – التي اصدرتها المحكمة الابتدائية في عام 2018 وأيدتها محكمة الاستئناف في عام 2021 – والتي تراوحت بين ثمانية وخمسة وعشرين عاما في السجن ضد سبعة جنود سابقين بتهمة اختطاف وتعذيب وقتل الفنان جارا.

كانت أعمار القتلة تتراوح الآن بين 73 و 85 عامًا وكانوا أحرارًا حتى صدور القرار النهائي، وأُدين الجنود السبعة أيضًا بقتل المدير العام للسجون والناشط الشيوعي ليتري كيروجا، الذي أُعتقل  في الوقت نفسه الذي أُعتقل فيه فيكتور جارا. لكن ستة منهم فقط سيقضون عقوبتهم: في يوم الثلاثاء 29 أغسطس/آب 2023، عندما فتح للتو باب منزله أمام الشرطة التي أتت لاعتقاله، العميد السابق هيرنان تشاكون سوتو، 86 عامًا، الذي حكم عليه في اليوم السابق بالسجن خمسة وعشرين عامًا، انتحر بسلاح ناري. هذا الانتحار ذكره الرئيس التشيلي غابرييل بوريتش، الثلاثاء، خلال جنازة الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي غييرمو تيلييه – الذي توفي متأثرًا بإصابته الطويلة بكوفيد. وقال رئيس الدولة للصحفيين: “اليوم، ونحن على وشك إحياء ذكرى مرور 50 عامًا [على الانقلاب]، يموت آخرون بطريق جبانة حتى لا يواجهون العدالة”. وكان اغتيال فيكتور جارا من أكثر حوادث الدكتاتورية (1973- 1990) رمزيّة، حيث راح ضحيتها 3200 ضحية (بين قتيل ومفقود) بحسب منظمات حقوق الإنسان.
 في يوم الأربعاء الموافق 30 أغسطس/آب، أي بعد مرور ثلاث وثلاثين عامًا على نهاية الدكتاتورية، كشف الرئيس بوريتش عن خطة وطنية للبحث عن الحقيقة والعدالة، لتسليط الضوء على مصير نحو 1200 شخص ما زالوا في عداد المفقودين. وأعرب عن أسفه لأن عدالة الاقتصاص من قتلة فيكتور جارا جاءت متأخرة للغاية، وقال إن “الطريقة الوحيدة لبناء مستقبل أكثر حرية وأكثر احتراما للحياة والكرامة الإنسانية هي معرفة الحقيقة كاملة”.لقد ضرب حتى الموت، العضو في الحزب الشيوعي، والمؤيد المتحمّس للوحدة الشعبية - ائتلاف الرئيس سلفادور الليندي المنتخب عام 1970 والذي أطيح به في 11 سبتمبر/أيلول 1973 في انقلاب دعمته واشنطن - فيكتور جارا، البالغ من العمر 40 عاماً وقت وفاته أصبح رمزًا للأغنية الاحتجاجية في بلاده وفي جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. نصوصه المسالمة والملتزمة، مثل الحق في العيش بسلام أو الصلاة إلى حارث الأرض، مستوحاة من التقاليد الشعبية وتكريم الطبقات المحرومة وخاصة عالم الفلاحين، الذي جاء منه.
لقد قبض على فيكتور جارا في 12 سبتمبر 1973 في حرم الجامعة التقنية الحكوميَّة. ونقل مع 5000 سجين سياسي آخر إلى ملعب تشيلي، وهو ملعب رياضي في العاصمة جرى تحويله إلى مركز احتجاز، وفيه تعرف عليه الجنود وعزلوه عن بقية المعتقلين. ثم تعرض للضرب بشكل منهجي وعنيف بقبضات اليد أو القدمين أو بأعقاب البنادق، ولا سيما على وجهه ويديه. وكان أحد جلاديه يصرخ في وجهه: “دعنا نرى ما إذا كان بإمكانك العزف على الجيتار الآن، أيها الشيوعي اللعين!” أما  فيكتور جارا، “فكان يبتسم، وكان يبتسم دائمًا، وكان له وجه مبتسم، وهذا ما جعل الفاشي أكثر جنونًا”، وهذا ما شهد به بعد سنوات سجين آخر، هو المحامي بوريس نافيا، الذي أُعتقل في الوقت نفسه مع فيكتور جارا.
لقد ألقيت جثتي المغني جارا وليتري كيروجا Littré Quiroga في 16 سبتمبر في قطعة أرض شاغرة بالقرب من مقبرة العاصمة. وقد تعرف المارة على جارا الذين نبهوا زوجته، الراقصة ومصممة الرقصات البريطانية جوان تورنر جار التي قالت في لقاء معها: “دخلت المشرحة، وكانت الغرفة مليئة بالجثث العارية، ... رأيت أجساد الشباب مكدسة. كان المشهد مرعبا. بل كان جحيما. في الطابق الثاني، في ردهة مليئة بالجثث، رأيت فيكتور. وكانت على جسده آثار ثقوب مدفع رشاش، ويداه ملطختان بالدماء، وجرح في وجهه وآخر في رأسه. ووضعت عليه علامة: غير معروف. كانوا يريدون اخفاءه، لكني كنت محظوظًة بما يكفي في التعرف عليه”. ثم دفنت جوان تورنر جارا زوجها سرا تقريبا. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2009، أمرت العدالة باستخراج الجثة. فكشف تشريح الجثة عن 56 كسرًا في العظام و44 ثقبًا ناجمًا عن اطلاق الرصاص. بعد ذلك  دفن فيكتور جارا بكرامة خلال مراسم تشييع مهيبة جمعت آلاف التشيليين والرئيسة في ذلك الوقت ميشيل باشيليت.
قبل أسبوعين فقط من إحياء الذكرى الخمسين للانقلاب - واختطاف زوجها - حصلت جوان تورنر جارا على العدالة. وكانت قد تقدمت بشكوى عام 1978، لكن القضية لم يُعَدْ فتحها وأحيلت إلى المحكمة إلّا بعد إلقاء القبض على أوغستو بينوشيه في لندن عام 1998، وذلك بفضل إصرار محامي الأسرة نيلسون كاوكوتو.
أما المتهم الثامن، فهو بيدرو بارينتوس، الموجود في الولايات المتحدة، حيث فرَّ عام 1990 عندما عادت الديمقراطية إلى تشيلي، وحصل على الجنسية الأميركية عن طريق الزواج من أمريكية. وفي عام 2016، أدانته محكمة في فلوريدا بقتل المغني وكاتب الأغاني جارا وأمرته بدفع 28 مليون دولار لأرملته. وفي يوليو/ تموز 2023، أسقط القضاء الأميركي جنسيته، على أساس أنّه حصل عليها بالكذب بشأن ماضيه وعدم التصريح بمشاركته في جرائم. ويأمل المحامي كاوكوتو أن يفتح هذا القرار الباب أمام تسليمه.

القصيدة الأخيرة
في عام 1966، ألّف فيكتور جارا أغنية الجندي:
 أيُّها الجندي،
 لا تطلق النار عليَّ،
أيُّها الجندي،
أعلمُ أن يدك ترتجف،
 أيُّها الجندي،
 لا تطلق النار عليَّ»،
 ثم غنى بطريقة تحذيريَّة. قبل ساعات من إعدامه، حيث تمكن من كتابة قصيدته الأخيرة، تُعرف باسم  (“نحن خمسة آلاف”) أو ملعب تشيلي. وفيها كان يندهش: “كم هو مخيف وجه الفاشية!”. في عام 2003، تم تغيير اسم ملعب تشيلي إلى ملعب فيكتور- جارا.
عن اللوموند  الجمعة - الأول من أَيْلُول : سِبْتَمْبِر 2023