أدونيس بين النص والشخص
عبدالكريم كاصد
إنه يتكلم عن الوهابيَّة هنا وكأنها اختصرت الإسلام، بل إنه يتحدث عنها كما لو كان يتحدث عن الصوفيَّة وهذا هو الطريق الذي يؤدي إليه التجريد القادمُ من الفضاء الفارغ، وليس من الواقع الملموس والتجربة الحيَّة. وفي هذا الفضاء الفارغ تتلاقى النقائض، بل وتندمج خالقة وهما آخر، هو وهمُ الصورة والمعنى معا حيث يبدو التمويه في أوجه، وهذا ليس استنتاجا منا كما يظنُّ القارئ؛ لأن أدونيس يلخصُ ما سبق بشكل مباشر بعيدا عن المجاز بقوله: «هكذا تمحي ذات الإنسان أمام ذات الله وأمام حضوره المطلق. ونحن نميل إلى تفسير ما نسميه بـ«الظاهرة» في نتاج الإمام محمد بن عبد الوهاب، بهذا الإمحاء».
تضخيم إرث الوهابيَّة
أما القفزة العالية التي لا يمكن توقعها أنْ يحضر رولان بارت بقدرة قادرٍ إلى جنب محمد بن عبد الوهاب، في القرن السابع عشر، بهذا المقطع: (هذه الظاهرة هي «غياب المؤلف» في هذا «النتاج»: فنحن لا نعثر فيه، مع أنه ضخمٌ واسع، على قولٍ أو رأيٍ، خاصٍ بالإمام. وإنما هو «نتاجٌ/ استعادة»- أي أنَّه إعادة تصنيف وتبويب لما قاله الإسلام، وإعادة تنظيم لشروحه وتفاسيره)ج 3 ص 87. في هذا المقطع الصغير ثمة أكثر من سؤال: هل كان النتاج ضخمًا حقًّا؟ وهل كان إعادة تصنيف وتبويب لما قاله الإسلام، وإعادة تنظيم لشروحه وتفاسيره؟
قد يتوضح لنا جانبٌ عن حجم هذا النتاج ومستواه المتدني في أكثر من موضعٍ في كتاب حامد أنكار، إذ عمل مؤيدوها على تضخيم هذا النتاج بوسائل عديدة من بينهم إسماعيل الفاروقي الذي هو المرشد الفكري للمنظمة الإسلاميَّة لطلبة أمريكا وكندا لسنوات عديدة وقد كان معروفًا بمحاولاته العديدة في رفع المستوى الفكري لمحمد بن عبدالوهاب من خلال ترجمته إلى الإنكليزيَّة وهي في الحقيقة ليست ترجمة فقط، بل تطويلٌ على حد قول ألكار وهذا «التطويل» شمل كل كتب محمد بن عبدالوهاب. وعلى الرغم من أنَّ الفاروقي من أشد المروجين والمتحمسين للوهابيَّة إلا أنَّه يصف «كتاب التوحيد» الذي ترجمه بأنَّه «ملاحظات طالب» مبرّرًا ضعفه بانشغال مؤلفه الأدبيّ الذي هو محمد بن عبدالوهاب بتجنيد نفسه من أجل قضيته التي استحالت سيوفًا وقتلًا للطوائف الإسلاميَّة
الأخرى.
يعلّق ألكار على كلمات هذا الفاروقي بقوله: «كان من الأصح أنْ يقولَ بأنَّ هذا الكتاب وكذلك الكثير من مؤلفات محمد بن عبد الوهاب الأخرى مجرد ملاحظات طالب» ص 21، أما تجنيده أو بالأحرى عزيمته فيه فهي واضحة ولا يمكن إنكارها، ولكنْ كونها ذات طابعٍ فكريٍ أمر مشكوك فيه». يضيف ألكَار إلى ذلك «إنَّ كل مؤلفاته خفيفة الوزن من حيث الحجم والمضمون على حدّ سواء. والفاروقي، في محاولة تبرير مديحه لمحمد بن عبد الوهاب، أضاف لكلّ فصلٍ ترجمهُ من كتاب التوحيد قائمة من «المواضع الإضافيَّة» التي اختطها هو، موحيًا للقارئ بأنَّ المؤلف قد ناقش أصلًا بعض «الموضوعات» التي تثيرها الأحاديث المذكورة في الكتاب ولكنه في الحقيقة لم يفعل ذلك».
ولأهميَّة ما أوردَهُ وجهل أدونيس بذلك وولعه بإنشاء الجمل المموهة التي لا معنى لها، وكأنَّه على اطلاعٍ واسعٍ لما يقرأه من جميع الجوانب سأورد بقيَّة حديث ألكار عن التلفيق الذي يدعي سعة حجم مؤلفات محمد بن عبدالوهاب وعمق فكره.
يواصل ألكار حديثه بالقول: «كذلك نجد أنَّ طبعة لكتاب محمد بن عبدالوهاب (كشف الشبهات) قد نشرت في الرياض عام 1395 / 1975 محتوية لملاحظة في صفحة العنوان تقول: «قام بتفصيله السيد محمد شكري الالوسي» لا توجد في أيٍ من الحالين إشارة واضحة إلى موضع انتهاء مساهمة محمد بن عبد الوهاب وبداية مساهمة المحقق. يبدو أنَّ القائمين على الوهابيَّة محرجون بسبب ضآلة مؤلفات محمد بن عبد الوهاب لدرجة أنهم وجدوا ضرورة لتوسعة حجمها» ص 22.
كل هذه الحقائق وأدونيس لا علم له بها أو بطرفٍ ضئيلٍ منها راجيًا القارئ، إذا كان يهمه الموضوع حقًّا، أنْ يرجع إلى أصل الكتاب أو الهامش الذي سأرفقه بمقالتي هذه ليطلع على بعض التفاصيل الدقيقة لهذا «التطويل» أو التضخيم لمؤلفات محمد بن عبد الوهاب التي ينعتها أدونيس «بالنتاج الضخم الواسع»*.
الوهابيَّة حركة مقطوعة النسب
أما إعادة تنظيم شروح الإسلام وتفاسيره فلا علاقة له بالوهابيَّة إطلاقًا؛ لأنَّ الوهابيَّة لم تأت لتنظم شروح الإسلام وتفاسيره، بل جاءت نقضًا لكل الحركات الإسلاميَّة السابقة، سنّيَّة وشيعيَّة، وهذا ما تؤكده أغلب الدراسات التي تتناول الوهابيَّة ومنها دراسة ألكار الذي يؤكد أنّ «الوهابيَّة حركة مقطوعة النسب فهي قد ولدت من فراغٍ لا لكونها ظهرت في صحارى نجد القاحلة، ولكنْ أيضًا لأنها تفتقر إلى أيّ سابقة في التاريخ الإسلامي» لأنّ «القيمة الإلزاميَّة الوحيدة تكمن في القرآن والسنة حسب، ومع ذلك فإنَّ التصور بأنَّ معاني وتطبيقات القرآن والسنة ممكنة الفهم بشكلٍ جوهري ومفيدٍ بواسطة إغفال كل التراث الإسلامي تقريباً، منذ مرحلة ما بعد التنزيل، هو أمرٌ غير واقعي. كما أنه من الوهم بالدرجة ذاتها افتراض أنَّ أيّاً من الفرد أو المجتمع يمكن أنْ يكون مساحة فارغة يمكن أنْ يطبعَ فيها القرآن والسنة بشكلٍ أصيلٍ من دون أي وجودٍ لاختلاط مع عوامل تاريخيَّة أو معاصرة» ص 19
وحتى «هذه القيمة الإلزاميَّة الوحيدة التي تكمنُ في القرآن والسنة حسب» هي موضع اختلاف بين الباحثين، إذ يقصر البعض هذه القيمة على القرآن وحده، بخلاف ما يطرحه ألكار ومن هؤلاء الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي في كتابه «الفجر الصادق في الردّ على الفرقة الوهابيَّة
المارقة».
يذهب ألكَار أبعد من ذلك، إذ ينكر ادعاء البعض أنَّ «الوهابيَّة تمثلُ ظهورًا متأخرًا لإرث ابن تيميَّة»؛ لأنّ «إقامة البرهان على هذا الادعاء صعبة للغاية»، فضلاً عن ذلك «هناك فرقٌ جوهريٌّ بين الرجلين فإنَّ ابن تيميَّة وإنْ كان قد ناهض جوانب معينة من التصوف كانت في أيامه، معتبراً إياها خاطئة أو فاسدة، إلا أنه لم يرفض التصوف جملةً وتفصيلًا، فقد كان هو ممن دخل في الطريقة القادريَّة»؛ لذلك تبدو جملة أدونيس «إعادة تصنيف وتبويب لما قاله الإسلام وإعادة تنظيم شروحه وتفاسيره» ليست سوى جملة إنشائيَّة لا تعني شيئاً، ويمكن أنْ تنطبقَ على أي حركة إسلاميَّة إلا المذهب الوهابي الذي «لم يكن عدوّا لمعاصريه وإنَّما كان في حربٍ مع أسلافهم أيضًا» ص 39؛ لأنّ الإسلام – في عُرف الوهابيَّة – يحتكر الجهاد ضد من لا يؤمن بالتوحيد»
ص 26.
إنَّ مبدأ التوحيد يتضمن إلغاءً لبقيَّة المسلمين على أساس كونهم مشركين، وهو لا يكفي لجعل المرء مسلمًا مثلما لا يكفي أداء العبادات من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، لجعل المرء مسلمًا «ما دام يخترق مبدأ توحيد العبادة كما عرفته الوهابيَّة». فلا الاستعانة مقبولة، ولا الاستغاثة من أي شخصٍ كان للوصول إلى العون الإلهي، ولا مخاطبة الموتى مقبولة «ولا توقع الشفاعة أو الأمل في الحصول عليها من الأنبياء والأئمة وبقيَّة الرموز العظيمة وكذلك التبرك بقبور هؤلاء والزيارة لهذه القبور إذا كانت عملًا مقصودًا بحد ذاته، وكذلك تشييد القباب أو الأبنية الأخرى على تلك القبور» كل ذلك يعدُّ خرقًا لتوحيد العبادة ويجعل من مقترفه مشركًا. وباختصار فإنَّ ممارسة دينيَّة أجمع عليها المسلمون أو أغلبهم اكتسبت وجودها بعد القرن الثالث الهجري تعدّ
بدعة.
المذاهب السنيَّة الأربعة بدعة، الممارسات الصوفيَّة بدعة، وكذلك العادات الشعبيَّة، المولد النبويّ. لقد امتدت التحريمات إلى منع التدخين باسم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ومعاقبة من لم يطلقوا اللحى بطولٍ كافٍ، ومنع الموسيقى و»اعتبار أصص الورد مهينة للأخلاق العامَّة بسبب ألوانها البراقة، فهشمت لكنّ بعض هذه القوانين قد عُطّلت بإدارة الحرمين الشريفين، والتي فرضت نفسها مع الوقت» ص 45.
وكان نتيجة لذلك المجازر التي ارتكبت في كربلاء والطائف. فمن أين جاء إذن الترتيب أو التنظيم الذي يتحدث عنه أدونيس؟
يعلق ألكَار على هذه التحريمات: “إنَّ اعتقاد محمد بن عبدالوهاب بكون البدعة – ناهيك عن الشرك – قد غمرت المجتمع الإسلامي لما يقارب التسعمئة سنة هو أحد الأسباب التي أبعدته عن حركات التجديد التي عاصرته” ثم يأتي شاعرٌ وباحثٌ حداثويٌّ كأدونيس ليعدّ الوهابيَّة حركة نهضويَّة، واثقًا من قدرته على اتهام القارئ العربي بالتزوير ورافعًا مانفستو الإدانة المعاصرة على كل من يشك ولو قليلًا بما يطرحه من أفكارٍ في الشعر والسياسة والمذاهب، مدّعيًا – وإنْ كان لا يصرح بذلك - أنَّ لا مفكر هناك غيره في هذه البلدان العربيَّة الشاسعة، مستغيثًا بالآخرين ليعينوه على إيجاد هذا المفكر العربي رغم معرفته بأنَّ الاستغاثة محرمة في المذهب الوهابي. إنها لمسخرة حقّا.
التنويريّون والوهابيَّة
لم يكن أدونيس وحده في اعتبار الوهابيَّة حركة نهضويَّة، فقد سبقه أمين الريحاني ورشيد رضا وطه حسين والعقاد وغيرهم من أعلام الفكر العربي النهضويّ، وبعض هؤلاء لهم كتبهم عن الوهابيَّة كرشيد رضا، فلا تدري من أين يبدأ النص وأين ينتهي؟ وكأنّ كاتبه رجلٌ قادمٌ من
الفضاء.
لا يعنيني كاتبٌ سلفيّ كمحمد عماره حين يمجد الوهابيَّة، ولكنْ كيف أفهم تمجيد طه حسين مثلا للوهابيَّة وتنظيرات أدونيس الصوفيَّة لها، وإذا كان أدونيس قادراً على المناورة بجمله التجريديَّة المفرغة القوالب لكي يملأها بما يشاء في الصراع مع خصمه فكيف للمدافع عن تنويريَّة طه حسين أنْ يناورَ أو ينكرَ ما جاء واضحًا صريحًا في تصريحه هذا لمجلة الهلال، عدد مارس لعام
1933 ميلاديَّة:
«إنَّ مذهب محمد بن عبدالوهاب جديدٌ قديمٌ معاً، جديدٌ بالنسبة للمعاصرين، ولكنه قديمٌ في حقيقة الأمر؛ لأنه ليس إلا الدعوة القويَّة إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنيَّة، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصاً مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبدالوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهليَّة في العقيدة والسيرة، كانوا يعظّمون القبور ويتخذون الموتى شفعاءً، ويعظّمون الأشجار والأحجار، ويرون أنَّ لها من القوة ما ينفع وما
يضر».
«ولولا أنَّ العثمانيين والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب، وحاربوه في داره بقوة وأسلحة لا عهد لأهل الجزيرة بها، لكان من المرجوّ جداً أنْ يوحّد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر للهجرة، كما وحّد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن
الأول».
أين اختفت موسوعيَّة هؤلاء وتنويريتهم ومعرفتهم بالبشر والتاريخ واللغات وكأنها أشباحٌ سرعان ما تتطاير إثر أي عصفة ريح عابرة.
هل نصهم وجه أم قناع، أم هو الوجه والقناع معًا؟
أهو وسيلة إنقاذ أم غرق؟
هل نحاكمهم بنصوصهم أم بأشخاصهم؟
وحين تكون النصوص المظلمة واضحة لا مجال فيها لتأويل أو خبثِ لغةٍ ألا تبدو شخوصهم بظلالها الكثيفة هي المنقذة من الضلال.. ضلالهم؟
في مثل نصوصٍ كهذه أين نجد الخطأ في القارئ، في النص في الكاتب أم في هذا الواقع الذي هو ليس واقعًا ولا افتراضًا، بل لعبة هي من الخطورة ما يمكن أنْ تؤدي إلى هلاك الجميع ليس في الحاضر الذي تختلط مصالحه، بل على المدى البعيد وربما القريب
أيضًا.
صحيح أنَّ بعض المجلدات السميكة نسبياً قد طبعت في المملكة العربيَّة السعوديَّة تحت اسم “مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب” (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود) ولكنها في حقيقة الأمر لا تعدو كونها مجموعات لملاحظات وتصنيفات للحديث وفقًا لعناوين معينة. كاتب هذه السطور يمتلك في مكتبته الجزأين الأول والثاني وكذلك الجزء الرابع من هذه المجموعة.
ليس من الواضح كم مجلدًا تشكل المجموعة الكاملة لهذه السلسلة. الجزءان الأول والثاني لا يحتويان سوى على أحاديث تتعلق بضوابط الوضوء والصلاة والزكاة، ولا يحتويان على أي توضيحٍ أو تعليقٍ من قبل محمد بن عبدالوهاب شخصياً، في حين إنّ مصادر الأحاديث الموجودة في الهوامش هي جميعها من دون استثناء من عند المحققين الثلاثة لهذه السلسلة.
أما الجزء الرابع فيبدأ برسالة مبتسرة عنوانها “كتاب فضائل القرآن” وهي أيضًا مجموعة من الأحاديث المصنفة في ثمانية عشر فصلًا من دون أي تعليق... إلخ ص 23
يمكن للقارئ الاستزادة في معرفة هذا الموضوع بالرجوع إلى الكتاب مباشرة.