«قمر أحمر على سبايكر» في الكشف عن الفجيعة

ثقافة 2023/09/26
...

 أحمد البغدادي

توازياً مع الذكرى السنويَّة التاسعة لمجزرة سبايكر صدرت حديثاً عن دار لندن للطباعة، رواية جديدة للكاتب جمال حيدر توثق وتخلد الحدث الجلل، بعنوان: «قمر أحمر على سبايكر»، موزعة بين تسعة فصول، مع مقدمة قصيرة يصف الكاتب فيها تفاصيل العمل بقوله: «هذه حكايات بعض الناجين من مجزرة سبايكر 2014 أما آلاف الضحايا الذين ارتقوا إلى السماء، من الطافين في مياه نهر دجلة، الذين غدوا طعماً للأسماك، والمقتولين غدراً الممددين في عراء فسيح، بين الطرق الملتوية بين المدن ونقاط التفتيش، والمطمورين تحت التراب في مقابر جماعيَّة، فقد دونت حكاياتهم القلوب التي لا تزال تنزف دماً ولوعة».
تضمنت الرواية تسع حكايات لتسعة ناجين، ينحدرون من بغداد ومحافظات الجنوب والفرات الأوسط، فضلاً عن بعض الشخصيات التي قدمت العون لإنقاذهم. يتابع حيدر شخوص روايته واحداً بعد الآخر، مشاهد معاناتهم المتعددة، منذ لحظة وقوعهم في الأسر لغاية نجاتهم. أياماً معدودات حفلت بما لا يخطر على بال أحدٍ من أحداثٍ عِظام.
يكمل الكاتب فصولَ رحلة نجاة الجنود في محطات وأماكن ومدن وأحداث ومشاهد كان الموت فيها أقرب إليهم من حبل الوريد، مستذكراً ليس فقط منع نقاط التفتيش على مدخل كركوك باتجاه كردستان العراق، من السماح للجنود الناجين دخولها، بل وأكثر من ذلك «لكنَّ مسؤولي نقطة التفتيش رفضوا منحهم ما يروي عطشهم، منعوا عنهم الماء. إنها فاجعة العطش الراسخة في الذاكرة منذ معركة الطف، عطش تجذر عميقاً في الوجدان على مدى دهور طويلة» ص 134.
يستمر حيدر بالأسلوب والوصف والتدوين ذاته في استعراض بقيَّة شخوص روايته، حسين جاسم وحيدر مراد وسجاد شنشول وعلي جبر وعلي عبيرة ومهند الصيادي وواثق شاكر وياسر جاسم. يشتركون في ما عانوه وعاشوه، من ألمٍ وعذابٍ وإذلال.. ولحظات ترقب الموت، برغم تنوع صور ومواقف وطرق نجاتهم وخلاصهم من ذلك الجحيم. تسعةٌ من الناجين يسردون قصصاً يصعب تصديقها لو لا أنَّ رواتها أحياءٌ يرزقون، كلّ قصة تصلح أنْ تكون فيلماً شاهداً على مستوى السقوط المريع الذي يهوي إليه الإنسان عندما يحجر نفسه في حيزٍ فكريٍ ضيق، منسلخاً عن إنسانيته.
يعرض الكاتب أيضاً صوراً أخرى مشرقة لأفرادٍ من تلك العشائر والمناطق، تحررت من قيود الطائفيَّة الضيقة وسمَت بنفسها إلى سماء الوطن الواحد الذي يشتركون به مع الضحايا، إذ أسهمت مواقفهم بتوفير سبل خلاص الناجين وعودتهم إلى أسرهم، على الرغم ما كلفهم ذلك من تضحياتٍ جسامٍ في أنفسهم وأبنائهم على أيدي أبناء عشائرهم. (أبو حمد) يفقد ابنه حمد بعد أنْ توقف قلبه وهو يعبر النهر لينقذ عدداً من الجنود. علية خلف الجبوري (أم قصي) تخاطر بولدها خالد وبنتها الشابة ميادة لتنقذ مجموعة من الجنود «لا .. لن ينهار حلمي بإنقاذهم، لازم يعيشون ويرجعون لأهلهم» ص 85. الشيخ خميس آل جبارة. فراس التوف. (أبو أحمد) وزوجته. أميرة (أم عمر) وأولادها. خلفية (أم مثنى) تقول لأحد الجنود «أنا أمك، وأنت في عيني .. ولا يهمك» ص 172 لتدفع ثمن موقفها الشهم هذا حياة ولدَيْها مثنى ومهند.
من الجدير ذكره أنه سبق للكاتب أنْ أصدر روايتيْن الأولى بعنوان: «أجنحة في سماءٍ بعيدة» تستعرض أحداث الانتفاضة التي شهدها العراق عام 1991، والثانية عن تفجير الكرادة الإرهابي تحت عنوان: «شموعٌ على أرصفة الكرادة»، لتأتي الرواية الصادرة هذه كثلاثيَّة مكملة لبعضها. ما أثار السؤال الأهم في ذهني عن سبب إصراره على كتابة روايات توثق كلّ هذه المآسي التي شهدها العراق: إنساناً وأرضاً، على مدار تاريخه.
وفي حوارٍ شخصيٍ مع الكاتب حول السبب المخفي لاختيار رواية سبايكر تحديداً، يجيب حيدر: «تكشف الرواية في جانبها السردي عن جوهر الفجيعة في سبايكر.. وما أكثر الفواجع التي مرت بنا، فاجعة إثر أخرى. يكمنُ السبب في تواصل الفواجع في مسار حياتنا نتيجة لعطبٍ شاخصٍ في ذاكرتنا. ذاكرة العراقي مثقوبة، سرعان ما تفرغ بعدما تتخم بالأحداث المفصليَّة، لهذا نقتل على مرّ العصور بذات السيف، وبذات القاتل، وبذات الحقد، ونكون نحن الضحيَّة ذاتها. إذاً لا بُدَّ من تعزيز الذاكرة لننجو من القتل.. من الموت، لهذا جاءت الرواية لشحذ الذاكرة الجمعيَّة.. ذاكرتنا، كذلك الإسهام في إثراء الوعي ضد كل ما يعيق الحياة.. حياتنا، ويهدد وجودها‫.‬‬‬ فأنا أعتقد أنَّ لا شيء يزعج الضحايا أكثر من نسيانهم، لهذا فهم يطالبوننا‫..‬ كلنا، بيقظة الذاكرة، فمهما اتسع الخيال، لكنه يعجز تماماً عن نقل ألمهم وصرخاتهم وأنينهم وتمنياتهم، ويخفق، في الوقت ذاته، في رسم التوحش البشري وكميَّة الحقد والكراهية والبغض في عيون الإرهابيين المشحونة برغبة القتل.. والتشفي بالضحيَّة. فالرواية تضعنا أمام أوجاعٍ تحيا في منعطفات أيامنا، من أجل أنْ نقرأ تفاصيلها المحزنة ونحتفظ بها في صدورنا إيماناً بشهدائنا، وتمجيداً لبطولاتهم.. وخشية من النسيان، وما أصعب النسيان. لهذا كتبتُ الرواية بدافع تجنب الموت وتفادياً للنسيان، والكتابة هنا أداة لتنظيف زوايا عميقة ومخفيَّة من الذاكرة بغية تحريرها».‬‬
اعتمد الكاتب في روايته أسلوباً خاصاً قريباً من السرد التصويري، ربما كان مناسباً لكتابة سيناريو فيلم أكثر مما هو لكتابة رواية، حيث يسرد قصة كل ناجٍ على شكل مشاهد متعددة توزعت بين أكثر من فصل، ما يسبب، ربما، في تيه القارئ وضياعه أحياناً في متابعة قصة الناجي المعني، فالقارئ عادة لا ينهي قراءة الرواية في جلسة واحدة حتى تكون المشاهد حيَّة في ذاكرته ليتمكن من ربط مشاهدها مكوناً صورة كاملة لقصة الناجي، كما لعب تشابه أسماء الناجين وأسماء أماكن الأحداث دوراً في هذا التداخل والتيه، الأمر الذي يقلل من حالة التفاعل والتعاطف المتراكمة التي تحدثه قراءة المشهد، فما أنْ يبدأ القارئ بقراءة مشهدٍ حتى يتصاعد تعاطفه وانفعاله وتأثره، إلا أنه سرعان ما يخبو كل ذلك مع قطع القصة والبدء بمشهد لقصة ناجٍ آخر، نتيجة ذلك التقطيع.
بالرغم من تلك الملاحظات فإنَّ الرواية تبقى عملاً توثيقياً دقيقاً ومتميزاً أبدع الكاتب في ثنايا محتواه في إظهار تفاصيل ما مرَّ به الضحايا من مآسٍ وألم «في المقبرة الأولى وهي الأوسع، تمَّ تنفيذ قتْل الجنود بشكلٍ جماعي، أهالوا الصخور والتراب فوق أجسادهم المحملة بالأحلام والرصاص، لتأتي الوجبة الثانية التي فصلتها عن الوجبة الأولى الصخور والتراب، ثم الوجبة الثالثة وتلتها الرابعة. أربع طبقات من الأرواح، أربع طبقات من الصخور، أربع طبقات من الأتربة، أربع طبقات من الأسى وآلاف الطبقات من الحقد الأعمى والعداوة» ص 184. وصفٌ مليءٌ بالصور الفنيَّة يستفز لدى القارئ مشاعر السخط والغضب على المجرمين والقتلة وداعميهم، وما عكسوه من تردٍ وانحطاطٍ في إنسانيتهم، وبلادةٍ وتحجرٍ في مشاعرهم كبشر، ومثيراً في الوقت نفسه مشاعر التعاطف والحزن والأسى مع الضحايا في مجزرة تشترك بكثيرٍ من التفاصيل مع واقعة الطف في كربلاء بصورٍ كثيرةٍ، حيث الأسر والذبح وحز الرؤوس والحقد الذي طال الأبرياء، والتشفي من الضحايا.