مسلم غالب
يعد الاستماع الفعال من أهم المهارات في الحياة الأسريَّة، والعلاقات الاجتماعيَّة بشكلٍ عام. فعملية الاتصال قائمة على الاستيعاب والتفهم، ومن لا يجيد الاستماع الجيد والإنصات لن يحقق أي تقدم في مجال صنع العلاقات الجيدة والمؤثرة، وسيفشل في أمر الاتصال مع الآخرين.
والأسرة مسرحٌ للتواصل وخلق الثقة وتبادل الحديث والمشاعر بشكلٍ متواصلٍ بين الزوج والزوجة، وبينهما وبين الأولاد الذين ينتمون إلى جيل آخر، وثقافة باتت تسيطر عليها قنوات التواصل الإجتماعي الحديثة، ما يجعل الاتصال معهم يبدو أصعب ما كان عليه في الأجيال الماضية.
لا يجب الخلط بين الاستماع العادي والاستماع الفعّال. فالسمع أو الاستماع هو عملية فسيولوجية بحتة وعبارة عن استقبال الاذن لذبذبات صوتية، دون إعارتها اهتماماً أو إعمال الفكر في المادة المسموعة. مثل الاستماع إلى صوت العصافير، التي تستقبلها الاذن من خلف نافذة البيت. ولكن الاستماع الفعّال يتعدى هذا المستوى المتدني ويدخل في العمق، فيسعى إلى فك رموز الإشارات الصادرة عن المتحدث، بغية التعرف على عالمه واهتماماته ومخاوفه، وما يريد إيصاله للمستمع عبر الكلام ولغة الجسد.
الاستماع الفعّال عبارة عن الإنصات الجيد والإنتباه المركّز إلى الطرف الآخر. الاستماع إلى ما يقوله وما يصعب عليه البوح به، فتشجيعه على الكلام تارة، وقراءة ما بين السطور تارة أخرى.
أدوات الاستماع الفعّال
تعتمد مهارة الاستماع الجيد على أدوات فعالة كـ: الإنتباه المركّز، الأسئلة القصيرة المفتوحة والمشجعة، التغذية العكسية، تلخيص العبارات والفكرة الرئيسية وفهم لغة الجسد. التركيز التام للمتحدث، يدل على الاهتمام والاحترام، ويساعد على الاستيعاب، ويبني جسراً من الثقة بين المتحدث والمستمع. إضافة إلى الإنصات التام، طرح الأسئلة عند ما يكون بشكلٍ قصيرٍ وفي قالب مفتوح باستخدام عبارات مثل: لماذا، كيف.. إلخ.. يشجع المتحدث على المضي في كلامه والاسترسال. وكذلك التغذية العكسية، من أهم أدوات الاستماع الفعّال، فالمتحدث بحاجةٍ إلى تأكيد واطمئنان وتفهم من المستمع. والمستمع الجيد يوفّر هذا كله من خلال التغذية العكسية أثناء الإصغاء. خذ على سبيل المثال عند ما يحاول الابن طرح مخاوفه حول موضوع يسبب له الإحراج عند ما يحاول التفكير به، فهو قد يتلعثم ولا يجد العبارات المناسبة، وقد يلف ويدور حول الموضوع ولا يدخل في صلبه بشكل مباشر. هنا يأتي دور الأب كمستمعٍ جيد، محاولاً مساعدة الولد على إيضاح الفكرة والإفصاح عما يدور في خلجه والتنفيس عن كربه والتخلص من مشاعر وأحاسيس سلبية مرافقة للموضوع وطرح الفكرة. على الأب هنا أن يصغي جيداً إلى كل الإشارات الكلاميَّة وغير الكلامية التي يرسلها الابن أثناء حديثه. أن يكون منتبهاً لما يقال، يطرح أسئلةً مفتوحةً قصيرة، يستمع جيداً إلى كل من المشاعر ومضمون الكلام ويساعد المتحدث على تنظيم فكره، ويشجعه على البوح بأمور يرغب بالإفصاح عنها، لكنه لا يطرحها بسبب الخجل أو خوفاً من الأحكام التي قد يصدرها الطرف الآخر عليه. إذاً الاستماع الفعّال مهارةٌ ليست سهلة. وتحتاج لممارسة حتى يتمكن الفرد منها وتسهل عنده. ارتكاب الأخطاء في البداية، أمر طبيعي ومتوقع. فهذه المهارة لا يمكن تعلمها بين ليلة وضحاها، وتتطلب مثابرة وعملاً دؤوباً كأي مهارة مكتسبة أخرى. وسيفشل الوالدان في بداية الأمر عند إستخدامها مع أبنائهما، وقد تبدو بعض الأدوات كالتغذيَّة العكسيَّة مصطنعة، لكن عليهما المضي قدماً رغم الأخطاء الأولية المتوقعة، وسيتمكنان من هذه المهارة المهمة في الحياة الزوجيَّة والأسريَّة، وسيتعرفان أكثر على المعوقات التي تحول دون الإستماع الجيد وتعرقل الاستيعاب.
معوقات الاستماع الفعّال
-عدم الإنصات والانتباه التام. سينتبه الابن أو البنت من اللحظات الأولى للحوار، إذا كان الوالد يستمع جيداً أو يتظاهر بالإستماع. عادة ما يكون الوالد، منشغلاً بهاتفه الجوال عند ما يشرّع الولد أو البنت بالحديث. أو يستمع وهو شارد الفكر، يفكر بقضايا تخص دوامه وليس لها صلة في البيت. يفسر الابن عدم التركيز هذا على أنه عدم اهتمام له ولمشاعره، فيفضل الصمت ويترك الإفصاح، عما يدور بداخله إلى أصدقائه خارج البيت.
-مقاطعة الكلام وكثرة الأسئلة. يعتمد الاستماع الفعّال على الصبر والكف عن الحديث وإفساح المجال للطرف الآخر أن يأخذ وقته الكافي، دون أي مقاطعة أو اتباك. كثرة الأسئلة تشتت فكر المتحدث، وقد تنسيه الفكرة الرئيسة، التي يريد إيصالها للمستمع. على المستمع الجيد أن يتحلى بالصبر ولا يتسرع ويقلل من المقاطعات غير الضرورية، ويكتفي بطرح أسئلة قصيرة مفتوحة تعيد مبادرة الكلام للمتحدث مرة أخرى.
-تقديم الحلول الجاهزة. عادة ما يطرح الطفل مشكلته مع أمه أو أبيه، فيسرعان إلى تقديم الحلول. وهذا آخر شيء يحتاجه الطفل في تلك اللحظة، فهو لا يبحث عن حلول جاهزة، بل بحاجة إلى آذان صاغية تستمع إليه وتفسح المجال له، كي يتحدث ويعرب عما يجول يخاطره من أفكارٍ ومشاعر قد تكون سلبيَّة. إن التسرّع في تقديم الحلول الجاهزة عندما يطرح الأولاد مشكلاتهم يعيق عملية الاتصال بينهم وآبائهم، ولا يساعد على الاستقلالية ويضعف قدرتهم على اتخاذ القرارات بمفردهم وإيجاد الحلول المناسبة، ويعرقل عملية الاستماع الفعّال، فيبقى الأحاسيس غير الصحيَّة المرافقة لمشكلاتهم، مكبوتة في صدورهم.
-التركيز على ظاهر الكلام وعدم قراءة ما بين السطور. يختصر الاستماع العادي على التركيز على ظاهر كلام المتحدث، دون الالتفات إلى مغزاه الأصلي، بينما الاستماع الفعّال يعتمد على الغوص في أعماق بحر كلام المتحدث عبر التمكن من قراءة لغة جسده وإشاراته غير الكلامية، بالغة الأهمية ودلالاتها من مشاعر وأحاسيس لا تظهر بالكلمات، بل تحتاج فهما أكبر، وقدرة على قراءة ما بين السطور وفهم لغة المشاعر. إن التركيز على ظاهر الكلام فقط، يعرقل عملية الاستماع الفعّال وقد يؤدي بالمتحدث على أن ينهي حديثه بسرعة، غير راغب بالعودة مرة أخرى للكلام عن الموضوع، الذي يشغل باله مع الطرف الآخر.
وأخيراً، لا بد من تمهيد الأرضية المناسبة في مناهجنا الدراسية، وجميع الوسائط الاجتماعيَّة بالنسبة لتعلم مهارات الحياة الأساسية ومهارة الاستماع الفعّال على وجه الخصوص.