طفولة السرد الهرمة

ثقافة 2023/10/01
...

 محمد جبير


هل تعيش سردياتنا طفولتها الهرمة؟ أم هناك استثناءات؟

قد يرى بعضهم في هذا الاستهلال التساؤلي تجنّياً على المنجز السردي العراقي في مئة عام من منظوره الخاصّ الذاتي البحت، بينما يراه الباحث والدارس تساؤلاً استفزازياً، ونراه محفِّزاً للبحث، وتقصّي ظاهرة النموّ الطبيعي للسرد في ضوء التطوّر الاجتماعي، وتطور التقنيات السردية الأجنبية على المستوين الإقليمي والعالمي، فقد ظهرت السرديات العراقية في شكلها المدوّن كتابياً مع بداية تشكّل الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، وتحرّر العراق من الهيمنة العثمانية التي امتدت قروناً، ليعيش العراق في مرحلة تأريخية مظلمة، هذه المرحلة التي أشارت إلى تخلّف ثقافي وحضاري واجتماعي. ولا يمكن من حال التخلف هذه أن يحدث النهوض المجتمعي بشكل سريع مثلما تشكّلت الحكومة العراقية، لكن أريد لها أن تكون تلك السردية المحلّية التي تظهر إلى العلن مع هذا التاريخ الحديث للعراق، وتتخلّص من هيمنة السرديات العثمانية التي تغلغلت في العقل الجمعي الشعبوي، وأريد لتلك الطفولة السردية أن تكون عراقية في مهدها الأوّل، وإذ كتب محمود أحمد السيد روايته "جلال خالد" عن صديقه الأثير "حسين الرحال" ورحلته الدراسية إلى الهند، إذ لم تتخلّص من محمولات ماركسية وافدة، ولم تكن من نبت أرض الوطن، كما هو الحال مع "ذو النون أيوب" الذي كتب عن الفلّاحين وفق الوافد الماركسي، مقتنعاً بوجود طبقة فلّاحية تناضل من أجل نيل حرّيتها من "إقطاع متخيّل"، ولم يدرك العلاقة الحقيقية الاجتماعية في العلاقات العشائرية بين الفلّاح الأجير والمالك السيد أو شيخ العشيرة.

هذه السرديات لم يكن الخلل يكمن فيها، وإنّما يكمن في المكوّنات الاجتماعية التي تشغل الحيّز المكاني المسمّى "عراقاً"، إذ إنّ النظام السياسي العامّ لم يسعَ لخلق مجتمع، وإنّما سعى إلى إنتاج مكوّنات، وصرّح بذلك علناً، وبهذه المتبنّيات الأيديولوجية لم يتشكّل النمو الاجتماعي للفرد، وهو ما لا يمكن أن ينتج سرداً، إذ إنّ تحقّق السرديات يكون من تشكّل المجتمعات، فلا سرد من دون مجتمع، وسعى الكثير من الكُتّاب إلى رصد ظواهر، لكنّ ذلك الرصد لم يكن للظاهرة، وإنّما لنماذج شخصية تعيش على الهامش، أو منكسرة، أو مخذولة، أو مهزومة، وغالباً ما تُقدّم بصيغة الأنا لتكتسب ذاتيتها الخاصّة، أمّا السرديات المعلّبة "أيديولوجياً"، فإنّها أرادت أن تقدّم أنموذجاً مغايراً لما هو سائد، إلّا أنّ ذلك الأنموذج وافد أو مستعار أو مستنسخ من نماذج الأدب الروسي مطلع القرن العشرين، ولا يمتّ بصلة إلى الواقع العراقي، وإذا ما حاول الكاتب العراقي أن يضفي عليه صفته العراقية فإنّها تظهر بصورة ناقصة فاقدة لنموّها الطبيعي.

الخطاب الفكري الذي ساد في تلك الفترة هو الخطاب ذاته الذي شاع ما بعد 2003، سواء على صعيد الإعلان الشخصي من قبل قيادات سياسية أسهمت في تشكّل النظام السياسي، أو ما نصّ عليه الدستور من أنّ المجتمع العراقي هو عبارة عن "مكوّنات" اجتماعية، ووضع لكل مضمون، حسب حجمه العددي، وزنه الطبيعي في النظام الجديد بين أغلبية عددية وأقلّية، وإذا كان الوعي في مرحلة تشكّل الدولة في مطلع القرن العشرين، فإنّ الوعي في مطلع القرن الواحد العشرين أشار تميزه وتقدّمه وقدرته إلى تأشير الخلل وإدانته في الوقت نفسه، وهو ما يميّز بين جيلين في الكتابة السردية.

هذا الوعي الشبابي، هو الذي فرز بين السرديات الوليدة، إلّا أنّ السائد العام في هذه السرديات التي تنتج في هذه المرحلة هي حقًّاً تعيش طفولتها الهرمة، فهي نتاج تجارب هرمة وأفكار بالية هشّة، ولا تمتلك رؤية جمالية، لأنّها أشبه بالتثاؤب، وهي التي تغطّي وتطمس المشهد الثقافي العامّ، إذ سادت في هذه المرحلة، وبالذات ظاهرة مرضية لا يمكن إغفالها أو عدم الإشارة والتوقف عندها، ألا وهي ظاهرة "المسنّين الحالمين بالكتابة"، هؤلاء المسنّين على وشك الرحيل تتلبّسهم رغبات كتابية وأحلام الشهرة والخلود عبر تدوين كلمات على شكل سطور وجمل وصفحات، ويفكّر مع نفسه أنّه لا يكاد يتجاوز الستين صفحة في تدوين ما يعتقد به مهمّاً ومميّزاً ومثيراً حتى يستطيع تحقيق حلمه ورغبته في إنتاج كتاب يخلّده بعد رحليه، أيّ وهمٍ هذا الذي يتلبّس ذلك المسنّ الذي خسر حياته في الروتين الوظيفي، ولم يعش يومه كما يعيشه الإنسان الباحث عن حرّيته في الحياة والإبداع.

إنّ مَن لا يدرك قيمة حريته الفردية في الحياة، لا يمكن له أن يدرك قيمة الحرف الذي يريد أن يبثّه للآخر، مِمّا يقيّده في محيط عبوديته للوظيفة والعائلة، من دون يدرك أنّ خيوط الشدّ والارتباط القسرية هي خيوط استعباد لا خيوط انتماء، لذلك تبقى ردود أفعاله هي بحدود دائرة هذا الوعي الضيّق الذي لا يمكن أن ينتج إبداعاً، وإنّما ذكريات باهتة بلا خطوط ولا ظلال، وبدلاً من الذهاب إلى ترميم عقله ووعيه، فإنّه يذهب إلى ترميم فكّه الذي يديم وجوده الكياني في محيطه الضيق، ولا يشكّل حضوراً في المكان الذي يحلم أن يكون فيه.

المسنّون الحالمون بالكتابة لا يجدون أمامهم في طريق الكتابة سوى تجاربهم البسيطة في الوظيفة والحياة، والتي لا تضيف شيئاً للمتلقّي، فقد تكسّرت طموحاتهم، وسالت أحلامهم على مناضد الوظيفة وإشكالات العمل اليومي، ولم تُسهم في تشكّل رؤية أو تصوّرات عن العالم وما يحيط بهم، وإنّما جمّدت تلك الأيام تفكيره في كيفية تأمين مصاريف العائلة اليومية، وهو بذلك الوعي البسيط المحدود بالوظيفة في مختلف قطاعات العمل لا يمكن له أن يخلق عقلاً يملك مخيالاً، ويمكن أن يقدّم كشوفات مغايرة للواقع، وإنّما ينتج عقلاً اجترارياً لأيّام رتيبة لا تستحق أن تدوّن وتضيّع وقت المتلقّي في هذيان غير متّصل لا يمتّ إلى الإبداع بصلة. يلتقي الكُتّاب المسنّون مع كَتَبة فشلوا مسبقاً في كتابة نصّ إبداعي، ولم يحقّقوا حلم الحضور أو إثارة الانتباه، وإنّما ذهبوا في خانة النسيان والإهمال، هما يلتقيان في الفشل التاريخي، وينكرونه على أنفسهم، لذلك يأخذون بصبّ غضبهم بتعليق فشلهم على خانة النقد الذي لم ينصفهم، والنقد منهم براء.