تطبيق مسار بولونيا في الجامعات العراقيَّة.. عقباتٌ وحلول

آراء 2023/10/02
...

 أ.د. طلال ناظم الزهيري

يهدف مسار بولونيا، إلى إنشاء نظام تعليمٍ عال أكثر توحيدًا واتساقًا في جميع أنحاء أوروبا. تضمنت أهدافه الأساسية تحسين جودة وشفافية التعليم العالي، وتعزيز تنقل الطلاب، وتسهيل الاعتراف الدولي بالدرجات. وفي الوقت الذي أسفر فيه مسار بولونيا عن نتائج إيجابية في بلدان أوروبا، إلا أن تطبيقه في العراق قد يواجه عقبات تتعلق بالاختلافات الثقافيَّة، وقيود الموارد، ومهارات أعضاء هيئة التدريس، وقضايا التقييس، ومخاوف التوظيف، وتحديات تنقل الطلاب.

علاوة على ذلك، فإن آلية اختيار القادة الإداريين في إطار نموذج بولونيا تضيف عقبة أخرى أكثر تعقيدًا على المشهد العراقي، الذي تلعب فيه الاعتبارات السياسية دورًا مهمًا في هذا الأمر. وعليه سوف نحاول النظر إلى بعض التحديات التي قد ترافق تطبيق المسار، ونحاول أن نقدم رؤىً حول كيف يمكن للجامعات العراقيَّة أن تتعامل مع هذه التحديات
بفعالية.
في المقام الأول يعزز مسار بولونيا التعلم المتمحور حول الطالب وأساليب التدريس التفاعلية. وهنا نشير إلى أن مصطلح «التعلم المتمحور حول الطالب»، يقصد به المنهج التعليمي، الذي يتم فيه تحويل تركيز عملية التدريس والتعلم من النموذج التقليدي المتمحور حول المعلم إلى النموذج، الذي يعطي الأولوية لاحتياجات الطلاب واهتماماتهم ومشاركتهم النشطة. يدرك هذا النهج أن لكل طالب نقاطَ قوةٍ وأنماطَ تعلمٍ وتفضيلات فريدة، ويهدف إلى إنشاء تجربة تعليمية أكثر تخصيصا وذات مغزى. بشكل عام، يهدف تعزيز التعلم المتمحور حول الطالب إلى إنشاء تجربة تعليمية أكثر نشاطًا وتفاعليَّة بقيادة الطلاب. إنه يعترف بأن الطلاب هم مشاركون نشطون في عملية التعلم الخاصة بهم ويسعى إلى تمكينهم من تولي ملكية تعليمهم وتطوير المهارات اللازمة للنجاح في عالم دائم التغير، بالتالي وأمام عقود من نمط التعليم المختلف في الجامعات العراقيَّة القائم على المنهج والمعلم وطريقة التلقين والحفظ، لا شكَّ ستكون عملية التكيف مع نظام التعليم المتمحور حول الطالب مرهقة، وتحتاج إلى وقت طويل. أما المعضلة الأهم هو نمط القبول المركزي، الذي يلغي تمامًا فلسفة التمحور حول الطالب. حيث يوجه المعدل العام الطالب إلى أقسام قد لا تكون في مقدمة اختياراته.
في المقام الثاني قد يؤدي النقص في الموارد المختلفة إلى عرقلة جهود الجامعات العراقيَّة من تبني نموذج بولونيا وتكييفه بشكل فعال مع أنظمتها التعليمية. يمكن أن تشمل قيود الموارد مجموعة من العوامل، بما في ذلك القيود المالية والبشرية والتكنولوجية والبنية التحتية. إذ قد تفتقر العديد من الجامعات، إلى التمويل الكافي لدعم التغييرات الضرورية المرتبطة بعملية بولونيا. يمكن أن يشمل ذلك تحديث المناهج، وتدريب أعضاء هيئة التدريس، وتطوير خدمات دعم الطلاب، وتحسين البنية التحتية. بالتالي يمكن أن تؤدي القيود المالية إلى فرض تنازلات في جودة التعليم وإعاقة تنفيذ التعلم المتمحور حول الطالب، والأنظمة القائمة على الائتمان، والإصلاحات الأخرى المتعلقة بتطبيق مسار بولونيا. ومن العقبات المتوقعة أيضا عمليات تطوير مهارات التدريس والمراد بها منهجية تعزيز المعرفة والمهارات والكفاءات والنمو المهني للأساتذة داخل المؤسسة الأكاديمية. الهدف الأساسي من تطوير أعضاء هيئة التدريس هو تحسين نتائج التدريس والتعلم، وتعزيز جودة التعليم، ودعم الرسالة والأهداف العامة للمؤسسة. وهي تشمل مجموعة من الأنشطة والبرامج والمبادرات المصممة لتمكين أعضاء هيئة التدريس من التفوق في أدوارهم كمعلمين وباحثين وموجهين ومساهمين في المجتمع الأكاديمي. بالتالي يجب أن تشتمل برامج تطوير أعضاء هيئة التدريس على ورش عمل وندوات وجلسات تدريبية، تركز على منهجيات التدريس المبتكرة والفعالة، وستراتيجيات مشاركة الطلاب، وتقنيات التقييم، ودمج التكنولوجيا في الفصل الدراسي. مع ضرورة إرشاد أعضاء هيئة التدريس في تصميم وتحديث المناهج، لتتماشى مع الأهداف التعليمية للمؤسسة وتوجهات الصناعة المتطورة. يتضمن ذلك إنشاء نتائج التعلم واختيار المواد التعليمية المناسبة وتطوير المناهج، التي تعزز التعلم المتمحور حول الطالب. ونظرا للدور المتزايد للتكنولوجيا في التعليم، يفضل أن يتم التركيز على تطوير أعضاء هيئة التدريس وتزويدهم بالمهارات اللازمة لدمج الأدوات الرقمية والمنصات عبر الإنترنت والتكنولوجيا التعليمية بشكلٍ فعالٍ في ممارسات التدريس الخاصة بهم.
كما أن الافتقار إلى التوحيد القياسي الذي يشير إلى عدم وجود أو نقص في القواعد أو الإرشادات أو الممارسات الموحدة أو المتسقة أو المقبولة على نطاق واسع في سياق النظام التعليمي في العراق، قد يؤدي إلى العديد من التحديات والشكوك. في إمكانية تطبيق المسار، إذ يمكن أن يؤدي الافتقار إلى التوحيد القياسي بين الجامعات على مستوى المناهج والنظام التعليمي إلى الارتباك وعدم الكفاءة وعدم الاتساق وصعوبات في الإدارة والتنظيم. وعلى المستوى المحلي يمكن أن نفهم معنى التباين على سبيل المثال في معدلات القبول في الجامعات العراقيَّة. إذ تتبع وزارة التعليم العالي تقويمًا رقميَّا يمثل الحدود الدنيا لمعدلات القبول في الكليات والأقسام. بحيث يكون هناك فارق بين جامعة وأخرى بمعدل القبول للأقسام المتناظرة. وهذا الأمر سوف يفرغ أهم هدفٍ من أهداف مسار بولونيا من محتواه، ألا وهو حرية تنقل الطلاب بين الجامعات. بالتالي سوف تجد الوزارة نفسها مجبرة على توحيد في معدلات القبول أو الذهاب إلى طريق آخر، وهو إلغاء معدل القبول والتحول إلى نمط التقديم المباشر واجتياز اختبار قبول على مستوى الكليات والأقسام. وهذا بحد ذاته أمرٌ بحاجة إلى مراجعة وتدقيق في ظل وجود ثقافة مجتمعيَّة تدفع باتجاه تخصصات بعينها دون سواها. كما أن التوحيد على مستوى المناهج والمقررات معضلة أخرى قد تواجه الجامعات العراقيَّة عند الرغبة في تطبيق المسار التعليمي. إذ تراجعت جودة ورصانة المناهج والمقررات التعليمية، بعد أن شاعت فلسفة (الملزمة) التي يقرر التدريسي استخدامها والتي قد تختلف كليا أو جزئيا مع المنهج والمقرر لأستاذ آخر في جامعة أخرى. بالتالي سوف تكون فكرة التنقل على أساس حساب جهد الطالب وعدد الساعات التراكميَّة في موضوع معين غير ذات قيمة لأنها قد تختلف ما بين منهجين. وتجدر الإشارة إلى أن مسار بولونيا يؤكد مواءمة التعليم مع قابلية التوظيف. ومع ذلك، فإن المشهد الاقتصادي في العراق وديناميكيات سوق العمل قد تتطلب تخصيص هذا النهج. يجب أن يمتلك الخريجون المهارات التي تلبي المتطلبات المحلية، وتتطلب توازنا دقيقا بين أهداف بولونيا وواقع العمل في العراق. واحد من أهم عوامل نجاح مسار بولونيا في أوروبا، هو سوق العمل الذي يحتل فيها القطاع الخاص مركز الصدارة في توفير فرص العمل. وما يميز سوق العمل الأوروبي هو اهتمامه بالمهارة في التفضيل الوظيفي قبل الشهادة، الأمر الذي يدفع الطلاب إلى الحرص على اكتساب المهارة مما يزيد من فرص تطور المؤسسة التعليمية لتواكب المهارات المطلوبة في سوق العمل. على مستوى سوق العمل في العراق يحتل القطاع الحكومي النسبة الأكبر من فرص التوظيف مقارنة بقطاع خاص محدود. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن القطاع الحكومي يشهد ترهلًا كبيرًا في الدرجات الوظيفية، بالتالي ستكون فرصة الحصول على الوظيفية الحكومية أمرًا شبه مستحيل. الأمر الذي قد يدفع بالكثير من الخريجين إلى ممارسة أعمالٍ ومهنٍ لا تمت بصلة للتخصص الدراسي. بالتالي فإن الإنفاق الحكومي على تأهيل الشباب ذهب سدى. ونؤكد مرة أخرى أن عوامل نجاح البرنامج المتمحور حول الطالب تعتمد بشكل أساس على تفضيلات الطلبة أنفسهم وخياراتهم التعليمية. بمعنى أن الطالب يختار المهنة أو الوظيفية التي يرغب العمل بها في المستقبل، ثم يخطط إلى الالتحاق بكلية أو برنامج تدريبي لاكتساب مهارة العمل فيها هذا هو النمط السائد في الحالة الأوروبية. وهو مناسب جدا لمسار بولونيا. أما على الحالة العراقيَّة فإن التخطيط للعمل المستقبلي ينتهي بمعدل القبول، الذي يحدد للطالب التخصص العلمي حتى وإن كان هذا التخصص من ضمن خياراته الإجبارية في استمارة التقديم. وعليه سوف يحاول طلبتنا في الجامعات العراقيَّة من التكييف مع الوضع الجديد.
من خلال الاعتراف بهذه التحديات وتنفيذ الستراتيجيات المصممة، خصيصا للبيئة التعليمية المتميزة في العراق، يمكن للجامعات العمل على تحقيق فوائد مسار بولونيا مع معالجة العقبات المرتبطة به من خلال الأخذ بالتوصيات الآتية:
 1 - ضرورة إجراء مراجعة شاملة وموضوعية للتخصصات العلمية والإنسانية، ودراسة إمكانية هيكلة البعض منها، أو تقليص عددها وبما يتناسب مع حاجة سوق العمل. فلا معنى لوجود عشرات الأقسام الدراسية في هذا التخصص أو ذاك، من دون أن تكون لهذه التخصصات حاجة في سوق العمل.
2 - مراجعة شاملة للنظم التعليمية واختيار النظام الأكثر ملاءمة لمنهج التمحور حول الطالب. مع التأكيد على أهمية وضع ضوابط ومحددات صارمة لتنظيم هذا الأمر.
3 - مراجعة قرار الاستمرار في الدراسات المسائية، الذي سوف يقف عائقًا في تطبيق مسار بولونيا، الذي غالبا ما يتطلب دواما مفتوح من الصباح إلى المساء. أما استمراره فسوف يؤثر كثيرًا في تحقيق التوازن بين الفترتين. والحل الأمثل أن يتم ترك حرية اختيار الدخول للمحاضرات متاحًا للطالب، بصرف النظر عن كونه طالبا صباحيًا أم مسائيا. وهذا الأمر سهل تنفيذه في حال التحول إلى نظام الساعات المعتمدة.
4 - مراجعة شاملة للمناهج والمقررات الدراسية، وبما يتلاءم مع النهضة التقنية في مختلف المجلات العلمية والإنسانية. والعمل على تشكيل لجان تأليف ومراجعة في كل تخصص لوضع مناهج دراسية رصينة والعمل على تحديثها باستمرار.
5 - ضرورة العمل على وضع ضوابط ومحددات لتطبيق البرنامج الثلاثي. وهنا نقترح أن يسمح فقط للربع الأول من طلاب برنامج الماجستير الالتحاق مباشرة ببرنامج الماجستير. ويسمح فقط للربع الأول من طلاب الماجستير الالتحاق ببرنامج الدكتوراه.
6 - وفي سياق متصل ولضمان تطوير برامج الدراسات العليا، نقترح التحول إلى برامج الدراسات العليا التخصصية. مثلا برنامج الماجستير في الكيمياء، يتم تقسيم الطلاب إلى برنامج الكيمياء العضوية، وبرنامج للكيمياء غير العضوية، وآخر للكيمياء الفيزيائية، ورابع الكيمياء الحياتية. وهكذا على أن تراجع هذه التخصصات كل خمس دورات. وهذا الأمر ينطبق على باقي التخصصات.
7 - وضع الضوابط والمحددات التي من شأنها أن تنظم التعليم الأهلي في العراق، من خلال توجيهها إلى التنافس على أساس الجودة والرصانة. ولتحقيق هذا الأمر يتم وضع تصنيف للجامعات الأهلية مثلا [A- B- C] وكل من هذه الأصناف مطالب بتوفير بيئة تعليمية متكاملة وبنية تحتية متوافقة مع الشروط، التي تضعها الوزارة. ولضمان تحقيق التنافس بين الكليات الأهلية للوصول إلى التصنيف الأعلى، لا بدَّ من تقديم امتيازات خاصة للطلاب المتخرجين منها، مثلا القبول في برامج الدراسات العليا أو التوظيف الحكومي.
8 - على مستوى البحث العلمي نوصي بأهمية استحداث مجلات تخصصية. إذ لا معنى أن تكون في كلية العلوم مجلة كلية العلوم فقط. وإنما يجب أن تكون هناك مجلة كلية العلوم للكيمياء وأخرى للفيزياء وأخرى للرياضيات والحاسوب وأخرى لعلوم الحياة. إنَّ عموميَّة مجلات كليات الجامعات العراقيَّة يعطّل حصولها على معامل قوة تأثير عالي. لأن عدد الاستشهادات لن يكون مؤثرًا مع عدد البحوث متعددة التخصصات.
9 - ضرورة تعزيز آليات ضمان الجودة لضمان التزام البرامج التعليمية بالمعايير المعمول بها وتحقيق نتائج التعلم المرجوة. من خلال إنشاء نظام اعتماد قوي يقيم ويقر التزام المؤسسات بمبادئ بولونيا.
10 - تطوير خدمات دعم طلابية شاملة، بما في ذلك الإرشاد الأكاديمي، والتوجيه المهني، وفرص الأنشطة اللامنهجية. وتنفيذ مبادرات لتعزيز مساهمة الطلاب ومشاركتهم في عملية
التعلم.
11 - تعزيز الثقافة الموجهة نحو البحث بين أعضاء هيئة التدريس والطلاب، وتشجيع دمج الأنشطة البحثية في التدريس. فضلا عن تعزيز التعاون البحثي متعدد التخصصات وتوفير الموارد لدعم المبادرات
 البحثية.
12 - إنشاء نظام قوي لرصد وتقييم التقدم المحرز وتأثير تنفيذ بولونيا. تقييم فعالية الإصلاحات بانتظام وإجراء التعديلات اللازمة بناءً على التعليقات
والبيانات.
من خلال الأخذ بهذه التوصيات، يمكن لمؤسسات التعليم العالي العراقيَّة العمل، من أجل التنفيذ الناجح لعملية بولونيا التي تعزز جودة التعليم، وتعزز التعلم المتمحور حول الطالب، وتسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلد.