لويجي بيراندللو فيلسوفاً

ثقافة 2023/10/02
...

 أوس حسن

حفل تاريخ المعرفة بالكثير من الأفكار الفلسفيَّة التي تمت صياغتها بقالب أدبي أو شعري، كقصيدة بارمنيدس وشذرات هيراقليطس وخواطر باسكال وسورن كيركيغورد، ولغة نيتشه الصوفيَّة في كتابه «هكذا تكلم زرادشت». إلا أن هؤلاء عرفوا كأسماء لامعة ومؤثرة في الحقل الفلسفي ومسيرة الفكر الإنساني، ولم يتم تصنيفهم بشكل نقي في قارة الأدب من دون أن تتفوق عليهم العوامل الهجينة الأخرى التي رسختهم في ذاكرتنا كفلاسفة أحدثوا الانعطافات الكبرى في تاريخ البشرية، لكن يكاد يتفق الدارسون على أن ما وصلنا من فلسفة بطريقة وجدانيّة وأدبيّة هو الأكثر تأثيرا على الإنسان، والأكثر قدرة على انتاج الحياة، وهذا ما سيقودنا بعد تلك المقدمة البسيطة لإعادة قراءة المسرحي والروائي الإيطالي لويجي بيراندللو فلسفيًّا، وتحديدا في روايته الشهيرة «واحد، ولا أحد ومئة ألف» الحائزة لجائزة نوبل عام 1934.
واحدٌ، ولا أحد ومئة ألف
لم يعرف بيراندللو إلّا ككاتب مسرحي، ولم يشتهر إلّا في الخمسين من عمره بمسرحياته الفلسفيَّة ذات الطابع الذي يلفه الغموض والشك، والتي حظيت بإقبال واسع من الجمهور على المسارح في إيطاليا وأوروبا ومن أهم هذه المسرحيات «ست شخصيات تبحث عن مؤلف عام 1921، ومسرحية حسب تقديرك عام 1917، وهنري الرابع عام 1922. لقد شغلت بيرانديللو فكرة الحقيقة ونسبيتها في أغلب أعماله الروائيّة والمسرحيّة، لكن الحقيقة هنا ليست الحقيقة المطلقة الشاملة أو العلميّة، وإنما الحقيقة الذاتية للفرد، لذلك الإنسان الذي يوجد ثم يريد أن يكون، فالإنسان دائمًا هو ما يكون عليه كما يرى الفلاسفة الوجوديون، لذلك كان بيراندللو دائم البحث عمّا هو حقيقي وثابت في عالم  متناقض لا يمكن فهمه، عالم دائم الحركة ومتغير باستمرار.
تأخذنا رواية «واحدٌ، ولا أحد ومئة ألف» إلى عوالم فلسفيّة ونفسيّة، بل يمكننا القول إنّ تلك الرواية هو موجز لتاريخ القلق الإنساني في عالم يختنق بالعبث واللاجدوى، كما أنَّها في الوقت نفسه ترنو إلى قيم روحيّة وأسرار لا يمكن أن نجدها إلا عند الفرق الباطنيّة والصوفيّة.
تتحدث الرواية عن موسكاردا المرابي صاحب المصرف الذي ورثه من أبيه، والذي يكتشف فجأة أنه كان يعيش في حقيقة ليست حقيقته، بل في مجموعة من الحقائق التي خلقها له الآخرون وضمن تصورهم، فيبدأ شكّه في اللحظة الأولى التي يطالع نفسه فيها أمام المرآة ليرى أن هناك انحرافًا في أنفه لم ينتبه له خلال السنوات الماضية، والتي أكدت له ذلك زوجته أيضًا، تبدأ عملية الشك هذه من علامة بسيطة في المظهر الخارجي لتشمل كل شيء من أفكار وأحاسيس، فيحاول أن يرى نفسه في المرآة كما يراه الآخرون، ليرى حقيقته في عين الآخرين، لكنّه يفشل في ذلك، ويتوصل إلى نتيجة مفادها أنَّ الإنسان لا يمكن أن يرى نفسه أو حقيقته بالصورة نفسها التي يراها فيه الآخرون، حتى لو وضع مرآة وجسد كل فعل من أفعاله، وكل شعور في لحظته الآنيَّة، فبمجرد نظر الإنسان إلى نفسه في المرآة سيتجمّد ذلك الإحساس ثمّ يتلاشى.
وتستمر الرواية في عملية شك منهجيّة تشبه تمامًا ما قام به ديكارت عندما شك في كل شيء حوله قبل أن يتوصل إلى ذاته الموجودة عن طريق الإحساس بتفكيره، وهو الشيء الحقيقي الذي يثبت وجود تلك الذات في العالم.
لكن شخصية موسكاردا لا تتوصل أبدًا إلى أي شيء حقيقي، فنحن لا نرى حقيقتنا إلا من الخارج أي كما ينظر إلينا الآخرون، وكذلك نحن لا نعرف حقيقة الآخرين إلا من الخارج، وكلٌّ منا يظن أنّه يعرف حقيقة الآخر الجوهريَّة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن حقيقتنا الخارجية ليست واحدة، فكل شخص يرانا بحقيقة مختلفة ووجود مختلف عن الشخص الآخر، فالأنا والآخر هنا هم المرايا، لكنها مرايا غير ثابتة الحجم والشكل ترينا حقيقتنا في عيون الآخرين بطرق متعددة ومختلفة. أما الشخص الذي يريد أن يكتشف حقيقته ويعيشها فسيصبح مجنونًا في نظر الآخرين، والآخرون سيتحولون إلى جحيم دائم لذلك الشخص، ومن هذا المفهوم تأخذنا مقولة سارتر «الآخرون هم الجحيم» إلى أبعاد أخرى ومعانٍ جديدة.
وهذا سيقودنا إلى عدد من المفاهيم يمكن استخلاصها من فلسفة بيراندللو وهي: بما أن لكل منّا شخصيات متعددة ومتناقضة، فالحقيقة تقبل التناقض والتعدد والاختلاف، لكل منّا حقيقته الخاصة ووهمه الخاص وكلاهما قادران على خلق معنى يعيش الإنسان لأجله، أما حقائق الأمس فهي أوهام اليوم، وحقائق اليوم هي أوهام الغد. وهكذا دواليك ستستمر لعبة الحقيقة والوهم في الحياة ودورات الوجود المتعاقبة.
وبناءً عليه لا يمكننا أن نقبض على شيء ثابت وحقيقي في هذا الوجود، فاللا يقين والتخلخل وعدم ثبات الأشياء على حالها في كل مرحلة زمنيَّة هو الشيء الوحيد الذي نستطيع أن نلتمسه ونشعر به، لأنَّ الحياة والعالم والكون وحتى الإنسان نفسه في حركة دائمة ومستمرة، والتغيير يعتري الطبيعة والكائنات والإنسان بصورة لا إراديَّة وبصيرورة دائمة الانفلات.
كانت الفلسفة الوجوديَّة قد تناولت الكينونة بوصفها الوجود الإنساني الذي يكون في توتر وصراع مع الأبعاد الزمنيَّة، وقد اهتمّت بانفعالاته وأحواله الشعوريَّة كالقلق والاغتراب واليأس، وارتأت أن الإنسان هو ما يصير عليه دائمًا، فليس هناك وجود ثابت للإنسان، والإنسان يكون محكومًا بالاختيار والحرية لما سيصبح عليه كما يعتقد سارتر.
أما بيراندللو فقد كان يرى أنَّ الإنسان في هذه الحياة يولد بطرق مختلفة وأشكال متعددة، لأنّ الكينونة سمتها السيلان الدائم والولادة المتجددة داخل دائرة الزمن، بل وفي نطاق اليوم الذي نعيشه.. فأنا الآن لست أنا قبل ساعة وأنا اليوم لست أنا قبل عدة أيام أو شهر أو سنة.
إنَّ الحقيقة تتبدّل وتتغيّر ويعاد بناؤها مرة أخرى مع تغير الأحاسيس والأفكار والظروف، ومع ما يتعرّض له الإنسان من مؤثرات خارجيّة، وعندما تتغيّر حقائق الإنسان مع الزمن، فإنّه يواجه اضطرابًا في علاقته مع معارفه القدامى الذين هم بدورهم أصبحوا كيانات أخرى وتبنوا حقائق جديدة في هذا العالم.
يبني بيراندللو عناصر الوجود الإنساني ضمن مفاهيم قد تختلف عن الذي عرفناهُ عند الفلاسفة الوجوديين، فالتناقض الذي يكون بين الذات والموضوع في الفلسفة الوجوديَّة، يتحول عند بيراندللو إلى نقائض تبني حقائق، وكل حقيقة هي سجينة الشكل والفعل الذي يقوم به الإنسان، لأنَّ الأشكال والأفعال هي التي تحدد حقائقنا، ونحن الذين نسجن أنفسنا داخل تلك الحقائق.
أما الشكل فالمقصود به هو المظهر التي تتخذه الكينونة عند الإنسان في كل فترة زمنيَّة، وهو الذي يسبغ عليها قيمة فعليَّة، لكنّها قيمة تتغير بطبيعة الحال وفقًا لما يبدو عليه لنا ذلك الكائن وهو حبيس الشكل والفعل، ويذهب بيراندللو أنَّ التمظهرات الجديدة للكينونة تحددها أشياء مثل الحظ والقدر والصدفة، يسميها بيراندللو فخاخ الحياة.
وهنا تأتي الصدمة الفلسفيَّة التي يباغتنا بها بيراندللو، فالإنسان الذي يريد أن يكون يجب أن يكون واقعًا في دوامة الحريَّة، لكن بيراندللو يرى أنَّ الإنسان الذي يريد أن يكون أو الكائن هناك، فإنّه يبقى محكومًا بالعبوديَّة الدائمة، لأنَّ الكينونة تقع في فخ الأشكال وتنتهي فيه إلى أمد محدد، وكل شيء ما بقي قائمًا سيحمل معه شقاء الشكل، شقاء أن يكون سجينًا داخل إطار أو على  طريقة ما في الوجود.
إنَّ موسكاردا في الرواية يكتشف أنّه لم يكن نفسه، وإنما عبارة عن موسكاردات عديدة لها حقائق وأشكال مختلفة في عيون الآخرين، لذلك يسعى بأن يكون واحدًا، أن يكون ذاته في جوهرها الحقيقي، فنراهُ يتخلى عن وجوده القديم تمامًا بإراداته فيقوم بتطليق زوجته التي لم تكن ترى فيه إلا فتى ساذجًا، ثم يقوم ببيع المصرف، والتبرّع بالأموال والبيوت التي يملكها لمجموعة من الأشخاص، فضلا عن ذلك تصرفاته وكلامه اللذين يؤكدان حقيقة جنونه في نظر الآخرين، إلّا أنّه أراد بتلك الأفعال قتل موسكاردا القديم وخلق وجود آخر له بكيان جديد وحقيقة ثابتة متحررًا  بذلك من اسمه وأسرته وأصدقائه، وكل ما كان يملكه من أموال ومقتنيات، إلى أن ينتهي به المطاف أخيرًا إلى مأوى للمشرّدين، لكن موسكاردا لا يفكر أن يكون عدمًا أو ينتحر، إذ يلحُّ عليه سؤال عميق في مخيلته:..» لماذا عندما يفكر المرء في قتل نفسه، يتصور نفسه ميتًا لا من وجهة نظره هو، وإنّما من وجهة نظر الآخرين؟».
يعود موسكاردا إلى الطبيعة المجرّدة، ليخلص أن عالمنا ما هو إلا عالم للأوهام والظلال، عالم متكلف وفارغ، حوّره الإنسان وشوّهه بنفسه ليضفي عليه القيمة والمعنى بما ترتضيه مصلحته وأنانيته المدمّرة.
إنَّ العزلة التي يعيشها موسكاردا وحيدًا تمنحه السكينة والسلام، فيرى نفسه عند تخوم اللحظة الراهنة التي يجري فيها الماضي والحاضر والمستقبل في تلك المدينة البعيدة، ليتلاشى بعد ذلك الزمن، لكن إلهًا داخليًّا من أعماقه يناديه ليتحرر من عبوديّة الشكل والمظهر، ومن قيد الزمان والمكان، فيكتشف أنّه لم يكن شيئًا سوى هذا الحجر أو تلك الشجرة، هو تلك الجبال والأنهار والبحار، هو الليل والنهار والشمس التي تشرق تحت القبة الزرقاء الصامتة، هو الذرة اللامتناهية الصغر، والكون المرعب بظلمته السرمديَّة، إنّه كلُّ شيء ولا شيء في الوقت نفسه.
تجسّد رواية «واحدٌ، ولا أحد مئة ألف» أعظم قيمة روحيَّة وإنسانيَّة، فقدرة التجربة الذاتية على أن تكون مقياسًا للحقيقة كفيل بأن يرسّخ الإيمان العميق بالذات خارج إدراكاتنا الحسيَّة.      
إنَّ الحدس الذي ينتاب الإنسان بأنّه خالدٌ أو يحيا في أبعاد زمنية مختلفة، لا يمكن أن تعبر عنه اللغة، لكن يمكن أن نشعر به كنور صامت في ظلمة عوالمنا الداخلية، إنّه الفيض الإلهي والمحبة اللا مشروطة لكل الأشياء التي تتجلّى بنا ونتجلّى بها. رغم النبرة الوجودية في الرواية والتي تنطلق من الفرد قبل كل شيء، إلا أنها تختصر سؤال المعرفة الإنساني الذي يبدأ بالشك، ثم البحث عن يقين يعيش من أجله الإنسان في عالم هلامي وبلا معنى. وأخيرًا، فإنَّ العدم الوجودي عند بيراندللو ليس ذلك العدم المرتبط بأشكال النفي والغياب والموت، إنّه العلو على الزمان والروح التي تتحرّر من سجنها وشكلها المادي داخل الحياة نفسها وليس بالموت، بحيث يصبح العدم هنا في كل حين خلقًا متجدّدًا.
يقول موسكاردا: «أنا لم أعد في حاجة إلى هذا، لأنني في كل هنيهة أموت، وأولد من جديد ومن دون ذكريات. حيًّا مكتملًا، لا داخل كينونتي بعد الآن، ولكن في كلِّ شيء خارجها».