مالك مسلماوي
«في الأمس وقبل الأمس
رجل أرهقه التكرار
وما ينزف من أفكار..
يرتبُ بهجته
ويصنعُ زهورا في النفس..»
عتبي عليك يا صاحبي، فالشاعر الذي هو أنا قال: ويصنع (زهوا) في النفس، وليس (زهورا) !..هذا مقطع من أول نص ارسلته الى (جريدة الجنائن) الحليَّة التي يحرّرها شكر حاجم الصالحي مع الصديق الإعلامي عباس خليل وبعض الأدباء والإعلاميين في تسعينيات القرن الماضي.. وأسفت لذلك الخطأ الطباعي («زهورا» بدل «زهوا»)، مع وضوح الخلل العروضي! ولا فائدة من الاعتراض.
فقد سبق السيف العذل كما قالوا.. بعدها لم أرسل نصّا شعريّا للجريدة ربما هناك مقالات تربويّة لا أتذكرها، لكنّي لم أنس النصّ المنشور فقد كان بداية علاقتي بالشاعر والكاتب والصحفي شكر حاجم الصالحي.. كنت أعرفه واقرأ له، وكان حضوره بارزا في كل المناسبات الثقافية وعلاقاته واسعة مع ادباء وفنانين كثيرين على مستوى العراق، كيف لا؟ وهو من الأعضاء المؤسسين لفرع اتحاد الأدباء والكتاب في محافظة بابل عام 1984، وقبل ذلك في (ندوة عشتار).
توطدتْ علاقتنا مع مرور الزمن، وتعرّفت عليه اكثر، اذ كنت شبه مواظب على حضور أمسيات الاتحاد، وكنت اخترت ان اكون مستمعا في بدايات حضوري، مع اني كتبت الشعر منذ زمن بعيد، واعرف ادباء كثيرين منهم جبار الكوّاز وشريف الزميلي وناجح المعموري وباقر جاسم ثم عبد الهادي عباس وولاء الصوّاف وزهير الجبوري.. كان شكر رئيسًا للاتحاد، فوجدته دائب الحركة لا يقر له قرار طيلة انعقاد الأمسية، حريصًا على ان يكون كل شيء على ما يرام.. وكان يعرفني من خلال ما أنشره من نصوص ومقالات في جريدة الثورة الملغاة. وفي احدى الامسيات المخصصة للقراءات الشعريّة، اضافني الى القائمة وليس معي سوى مسودة نص رثائي على نمط التفعيلة... تقرّب منّي وهمس: هل عندك نص؟ فقلت له: نعم. فقال: سيأتي دورك.. وكانت تلك أول مرة أقف فيها على منصّة الاتحاد.. وعرفت ساعتها أن «شكر» لا يفوته شيء مما يقع عليه من المسؤولية الثقافية والاجتماعية.. فكبر الرجل في عيني، فشكر همه الأول والاخير هو الفضاء الثقافي بكل أبعاده.
ننظر في المرآة فنرى وجوهنا.. وننظر الى اصدقائنا فنرى انفسنا. هذا ما أقوله عن تعريف الصداقة. والصداقة الحقيقية - حسب ما ارى- تبنى على التطابق في الأساسيات، ولا ضير من الاختلاف في التفاصيل والخصوصيات.. وعلى هذا الأساس توثقت علاقتي بنفرٍ من الادباء ومنهم شكر الصالحي، فهو انسان كبير العقل والقلب، لا يجامل على ما يعتقد، ولا يتلوّن ولا ينافق على حساب الحقيقة.
أمسينا نلتقي بصورة منتظمة، نتحاور ونتبادل وجهات النظر حول الشأن الثقافي والاجتماعي وأمور البلد، وقد شعرت أني بحاجة الى مجالسته كونه محبًّا للثقافة والمثقفين ويحلل الامور بوعي عالٍ، وتلك سمات المثقف الحقيقي، وجدتها لدى المثقف البابلي بشكل عام وواضح، فلا هم يعلو فوق هذا الهم عندهم.. لم يحدثني شكر عن أمر خاص أو أي أمر لا علاقة له بالثقافة، إلا ما حكاه لي عن رحلة علاجه بعد أن تكاسل قلبه فاضطر الى اجراء عملية جراحية كبرى في إيران قبل نحو عشر من السنين.. كانت لديه خبرة واسعة ومعرفة بالثقافة والمثقفين، وكانت لنا وجهات نظر متوافقة حول كثير من القضايا، لكننا نختلف احيانا ونتقاطع في بعض الامور السياسيّة بخاصة، فهو متعصّب يرفض من يخالفه، ويصل الامر الى توتره، لذا أحاول الانسحاب خوفًا على قلبه العليل، وتمكن الزمن منه، ثم سرعان ما نعود الى هدوئنا واحاديثنا الوديَّة فهو لا يحفظ ضغينة ولا حقدا.
وأجمل أوقاتنا في سفراتنا بين الفينة والأخرى الى بغداد، وطوال الطريق نتحدث بشتى المواضيع ونغني وندخّن مستمتعين بصياحات جميلة في رحلة الشتاء والصيف. كان مسرفًا في التدخين، وحين الومه، يقول لي ساخرًا: وهل سيزيدني عمرًا على عمري، شهرًا، شهرين او سنة مثلا؟!. ومع ذلك كان محبًّا للحياة والجمال.. وبرنامج سفراتنا ثابت تقريبا، ننطلق بعد السابعة صباحًا، يرافقنا أحيانا الفنان الناقد صلاح عباس أو الناقد زهير الجبوري.. نفطر في الطريق ببعض الفاكهة أو (السندويجات) التي يحضرها زهير الجبوري في البيت، بينما يدعونا صلاح عباس الى وجبة الكبة الصباحيَّة في باب المشهد.. وعندما نكون أنا وشكر، نتناول فطورنا في مطعم على الطريق، ثم نواصل مسيرنا.. نتجه أولا الى جريدة الصباح، نلتقي ببعض الأصدقاء، نستلم ما لنا من مكافآت نشر، وأحيانا نحط رحالنا في دار الشؤون الثقافيَّة، ثم نعود الى قلب العاصمة، نقضي وقتا طيبا مع اصدقائنا في جمعية التشكيليين العراقيين ونادي الجمعية الراقي، واحيانا نزور اتحاد الأدباء والكتاب في ساحة الاندلس. ونعود عصرا واوصله الى بيته.. وفي يوم اقترح عليَّ السفر الى ايران فوافقت فورا، واحببت أن يرافقنا الصديق هادي داود من الكفل، ومع أن «شكر» ليست له معرفة سابقة به وافق بلا تردد، وقال: ما دام صديقك فهو مثلك، فكانت من اجمل السفرات.. فشكر رفيق درب رائع، يحب السفر، والناس والطبيعة في تلك البلاد العظيمة بطبيعتها وتاريخها، ورغم وضعه الصحي وتعب قدميه الا أنه مليء بالحيوية والنشاط.. كريم المعشر والخلق واليد..
مع تقدم أبو علي أو ابن العلوية في السن كان يقرأ ويكتب يوميًّا، يقول: من يهدي إليَّ كتابا، يجعلني مدينًا له، ولا بدَّ من أن أرد له هذا الدين، فاكتب عنه، لذا كان شكر مسرفًا في الكتابة والنشر، له الكثير من الشعر والكثير الكثير من المقالات والمتابعات الصحفيّة، وله قصائد في الشعر الشعبي غناها مطربون عراقيون معروفون.. كان يحب الحلة وسعدي الحلي ومحمد علي القصّاب (الملة)، والشاعر حميد سعيد ابن الحلة، ويشيد بشاعريته واخلاقه، فكتب عنه الكثير وكان على تواصل معه.. واجمل ما قرأت له كتابه (هذا ما حدث)، وهو سرد ممتع عن هجرته الفاشلة الى جنوب شرق اسيا، فكتبت عنه مقالا طويلا.. أما كتبه الشعرية فهي محكمة بنائيا من ناحية اللغة، وتنتمي الى الحداثة السبعينية وارتباطها المباشر بقضايا الوطن والوقوف الطويل عند ما يتعرض له من الانكسارات والأزمات، لذا فهو لا يخلو من النكهة السياسية.
أحبُّ في شكر صراحته وجرأته، وثباته على موفقه، وخبرته الواسعة في العمل الثقافي واحترامه للناس وعلو وطنيته ومبدئيته ونكرانه لكل ما يسيء الى السمعة والشخصية العراقية.. لذا ترك اثرا كبيرا في قلوب اصدقائه المقربين وهم اكثر من ان تعدهم بالأسماء.. كان رحيله المفاجئ من اوجع الصدمات لي.. وفي الأمس قالت لي إحدى الصديقات على المسنجر: أراك حزينا على صديقك شكر الصالحي. قلت لها: الحياة بلا اصدقاء صادقين تبدو فارغة.. وما اكبر الفراغ الذي تركه شكر، وما أفظع الخسارات بفقدان كثير من اصدقائنا الأدباء والفنانين، لكنهم ما زالوا أحياء في قلوبنا يمرحون.