المعرفة الروحانيَّة في الرقص التعبيري

منصة 2023/10/02
...

  ضحى عبدالرؤوف المل

يتمتّع الرقص التعبيري القويم بخطوات متناغمة إيقاعيَّة ذات جمال خاص، وهو جزء لا يتجزأ من شخصية صاحب كل خطوة تعبيرية محكومة بالانطباع الذي نصف به الإنسان عامة. فمعيار الأصالة في الرقص هي الخطوة ببصمتها الحقيقية القائمة على مرونة دلالة الحركة. إنه التزام بقواعد النفس والقيم الإنسانية المؤمن بها، والتي تصعب السيطرة عليها ما لم يكن صاحب الخطوة يختزن معرفة روحانية يسيطر من خلالها على الجسد ليبتعد عن الابتذال، ووفقاً للإحساس الذي يرافقه سمعياً وبصرياً، وبعمق معنى الكلمة التي يمنحها حركة روحية تضفي على ليونته نوعاً من الفهم الهادئ والرصين. لمعنى الخطوة التي تشكل مسارات تبدأ منها معنى خطوات التشكيل الجسدي الذي تتحكم به الروح بعيداً عن المحظور، مما يسمح لنا بالاستكشاف لخطوات المرأة قبل الرجل في هذا المجال التعبيري الخاص. لما تمتلكه من قوة حسية تسمح لها بالاندماج في روحانية الحركة، كما هي الحال عند الراقصة التعبيرية "جورجيت جبارة" التي تترجم خطواتها بالحركة التعبيرية لجسد يتقن الارتجال الحسي للحظة التي تتكون من مجموعة عناصر منها الضوء والمساحة والدائرة والبصيرة التي تبدأ من نقطة تكبر وتصغر أثناء الحركة. لتعيدنا إلى فكرة الرقصات المقدسة والانضباط الرصين للجسد بعيداً عن الاهتزازات الفارغة من أي معنى حركي. فالاحتشام في الرقص يرتبط أساساً بالنشوة الروحانية البعيدة عن الهذيان. فالمرأة تمتلك حاستها السادسة، لتربط بين الرقص والروحانية، بدرجات عالية تمتلكها جبارة القادرة على التأثير التعبيري بصرياً بعيداً عن الدلالات الأخرى (ذات الأهداف الجنسية). فهي تمنح جسدها هالة من الحشمة التأملية لطقوس حركة واسعة المعاني جمالياً متفردة بخطواتها، وخصائص الرقص المعرفي الواسع في معطياته الثقافية عند "جورجيت جبارة" التي تتكئ على نبذ التعارض بين المادي والروحاني . لتُشكل من الجسد المادي ليونة طوّعتها، لتكون معتمدة على المعنى الحركي الذي تنطلق منه، تماماً كما القصيدة الإيقاعية الغنية بالمعنى الروحاني، بما لا يتناقض مع مفهومها للحركة التشكيلية التي يؤلفها الجسد عبر مساحة مدروسة هي البؤرة التي تعدها نوعاً من الاتصال الذاتي بينها وبين جسدها الذي تخرج منه أثناء الخطوات المقترنة بما تشعر به داخلياً من استثناءات تمتلكها، كأداة جسدية تترجم من خلالها أحاسيسها الروحانية العميقة. فهل التعايش بين الجسد والروح مكرس لبث معنى المحبة والسلام أو أنَّ خطوات الجسد هي تشكيل جمالي لا يُتقنه إلا من يمتلك القيم الحياتية التي تحث على الجمال والسلام ؟
تفرض خطوات جورجيت جبارة استحضارات تاريخية كثيرة للرقص منذ بداياته، فتموجات التعبيرات المصقولة حسياً تتطلب نوعاً من الامتداد الوهمي لهالة الجسد والنشوة الشاعرية لحركة سرية داخلية، وكأنها تمتلك نوعاً من الخصائص الصوفية، وإن كانت في أبعادها ترمز إلى جمال خطوات المرأة في الحياة. بل وجودها الذي يجب عليها أن تكونه من أنوثة وقوة معنى وجود، وميزة إنسانية تجتذب من خلالها القوى الغامضة إليها أو الدخول إلى جوهر الوجود الجسدي من خلال منح الروح قدرة على التحكم بالخطوات. ليتشكل الجسد تبعاً للحالة الهرمونية غير السمعية (كأنها تنفصل عن الجسد نهائياً وتتركه في حالة غير اتصالية مع الأرض) رغم حفاظها غالباً على دائرة ضوئية لا تخرج منها وكأنها متصلة بالمركز (المادي الروحاني) لتثير بذلك حالات ذهنية تساعد على التعمق التأملي. مما يسمح بفهم الخطوات والتشكيلات التي ترسمها عبر الليونة الحركية الدائرية في غالبها، وكأنها تمثل العودة إلى الذات لجسد تطهره من قساوة المادة الطينية ليحتوي خفة الروح كما ينبغي. فهل الخطوة عند الإنسان هي مساره الحقيقي في الحياة؟ وهل لكل خطوة مفتاحها كما هي الحال عند جورجيت جبارة؟
تمثل أشكال الخطوات الراقصة حول العالم وخلال التاريخ منذ بدء مفهوم الرقص المقدس نوعاً من الألغاز التي شكلت الكثير من الدراسات والأبحاث ضوءاً بحثياً يتطور مع الزمن، وحتى الزمن الحديث هذا أو ما بات يُقال عنه ما بعد الحداثة. إلا أنني في كل مرة أتأمل خطوات جبارة التعبيرية تجعلني أدخل في نشوة معنى الجسد المصقول بروح تضفي هالتها عليه بنوع من العظمة التي تفرض احتراماً لا متناهياً لامرأة شفافة الخطوات حتى وهي تسير على الأرض، وكأنها تفرض على روحها كامل الامتداد في الجسد. ليبقى على ليونة دائمة في شتى لحظات الحياة، وهذا ما تحتاجه المرأة لكي تحافظ على أنوثة خطواتها قبل أي شيء آخر. فالتحرر من الضغوط النفسية بالخطوات التعبيرية ولن أقول بالرقص هو الاقتراب من الهدف الوجودي الذي يشي بعودة الروح إلى الجسد، وهي بمثابة عودة المظهر الروحي إلى المادي بفن دقيق التعبير لتصحيح البنية الداخلية للنفس. فهل تبني جبارة من الفراغ المكشوف في الدائرة التعبيرية خاصتها نوعاً من الخطوات التي تعيد للروح خاصيتها في الجسد الذي يتحرك شاعرياً وفلسفياً وروحياً أو أنَّ للعقل خطواته في لغة الرقص التعبيري؟ وهل الجوانب التعبيرية للجسد هي صفات داخلية لما يختزنه الإنسان عامة؟