أرتيمسيا جنتالسكي فنانة الباروك التي أُعيد اكتشافها
فيء ناصر
لم تكن أرتيمسيا جنتالسكي المولودة في روما عام 1593 أول فنانة إيطالية نالت شهرة فنية في القرن السابع عشر، فقد سبقتها بضع فنانات وجايلتها آخريات مثل صوفنسيبا انغيشولا وفيدا كاليزيا اللتين اشتهرتا برسم الصور الشخصية ولوحات الحياة الساكنة، ويبدو أن هذين الموضوعين مفضلان لدى فنانات عصر النهضة ومابعدها، لأنه لم يُسمح لهن بدخول الأكاديميات الفنية أو متابعة الدروس الفنية في محترفات الفنانين أو توظيف موديل. لكن كل من يحالفه الحظ ويقف أمام لوحة (جوديث تحز رقبة هولفرنيس)، وهي أحدى الثيمات التي رسمتها أرتيمسيا مراراً، واللوحة تصوّر لحظة حزّ رقبة رجل من قبل امرأة وبمساعدة خادمتها، يدرك أن هذه الفنانة التي تُصنف كأبرز ممثلي عصر الباروك قد اختلفت وتميزت فنياً عن غيرها من فنانات عصر النهضة وما بعدها.
واللوحة تتناول القصة التوراتية “الرمزية” لفتاة يهودية تدعى يهوديث تتسلل ليلاً إلى خيمة قائد الجيش الآشوري الذي يحاصر مدينتها لتقتله وتحمل رأسه إلى قومها. وعندما نقارن هذه اللوحة تحديداً مع لوحة كرافاجيو، التي رسمها عام 1602، والتي تصور ذات الثيمة سنصل لنتيجة أن لوحة أرتيمسيا أكثر دموية وواقعية وكأنها تصبُّ حنقها وغضبها من خلال بطلتها يهوديث على ذلك الرجل الذي تدعس جبهته بقبضة يدها القوية وتحزُّ عنقه بسيفها بينما تتطاير نافورات الدم على السرير وأغطيته، الغريب في هذه اللوحة أيضاً أن عيني الرجل الضحية مفتوحتان وهو يعرف تماماً ماذا يحصل له وعلى يد منّ. لكن كيف تسنى لإمرأة حبيسة منزلها غالباً رسم مشهد القتل والدماء بكل هذه الواقعية؟ كثيراً ما فُسِّرت هذه اللوحة كما بقية لوحات أرتميسيا كأنها سيرة ذاتية لحياة الفنانة التي واجهت الكثير من المحن والمصاعب، حين عبَّرت عن حنقها وشعورها بالظلم بالاستعانة بثيمات وقصص دينية من العهد القديم معروفة ومتداولة فنياً، وكانت النساء بطلات تلك القصص، وغالباً أضفت عليهن ملامحها الشخصية. الرجل الذي يتم حزّ رقبته في تلك اللوحة يأخذ ملامح الفنان الإيطالي (اوغستينو تاسي/1578-1644) صديق والدها الفنان الإيطالي اورازيو جنتلسكي الذي كلفه الأخير بتعليمها فن المنظور لكن اوغسيتنو سرعان ما استغل ثقة اورازيو وأغوى واغتصب أرتيمسيا وهي بعمر السابعة عشرة واعداً إياها بالزواج. سيكتشف الأب هذه الفعلة الدنيئة ويقيم دعوة قضائية على اوغسيتنو بتهمة النيل من شرف الإبنة، وخلال شهور المحاكمة السبعة ستبدع أرتيمسيا لوحتها (سوزانا والكهلان/1610) وهي لوحة بالحجم الكبير تصوِّر القصة التوراتية لفتاة عفيفة في حمامها بينما يراقبها عجوزان ويطلبان منها ممارسة الرذيلة وهي تبادلهما الرفض والاشمئزاز والانزعاج.
حينما وقفتُ أمام لوحة (سوزانا والكهلان)، وهي القصة التي رسمتها أرتيمسيا مراراً أيضاً، تساءلتُ كيف يمكن لشابة في السابعة عشرة تعرَّضت لقهر ومهانة المحاكمة العلنية الطويلة لإثبات صدق إدعائها بالاغتصاب، وتعرضت للفضيحة في مجتمع روما الضيق، أن تبدع هذه اللوحة ذات الألوان المدهشة والممسرحة بإتقان وباستخدام أسلوب الـ(Chiarosura/ أسلوب التناقض الحاد بين العتمة والضوء)، لإضافة دراما حركية لونية على شخوص اللوحة. لا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن أرتيمسيا تعلمت الرسم منذ طفولتها المبكرة في مرسم والدها الفنان المعروف اورازيو جنتالسكي صديق وتلميذ فنان عصر الباروك الشهير(مايكل انجلو كرافاجيو 1571-1610). سيظل صدى ألم ومعاناة هذه المحكمة يتردد في أجواء لوحاتها التي مزجت فيها براعتها الفنية مع جرحها النفسي والجسدي وقوة إرادتها وعزيمتها، وهذا واضح جداً من ملفات تلك المحاكمة التي حفظت بكاملها حيث عذبت أرتيمسيا بربط إبهاميها معا بآلة (لولب الإبهام) والضغط عليهما للتأكد بأنها تقول الحقيقة، وقد قالت الحقيقة كلها :” لقد خربشت وجهه بأظافري، ودافعت عن نفسي، ولم أفلح بصدِّه، لكنه وعدني بالزواج ،وأعطاني هذا الخاتم”. حكمت المحكمة بعد شهور بنفي اوغستينو خارج روما لكن الحكم لم ينفذ لأنه كان مقرباً من بعض كاردينالات الفاتيكان. ومن غادر روما كانت أرتيمسيا حيث تزوجت من شقيق محاميها وغادرت إلى فلورنسا لتبدأ مرحلة جديدة في حياتها وفي فنها.
أرتيمسيا في فلورنسا
وصلت أرتيمسيا مع زوجها الفنان بيرانتونيو ستياتيسي فلورنسا القرن السابع عشر قبلة الفن والفنانين، وسرعان ما أصابت شهرة وأصبحت فنانة محترفة تعيش من فنها، تعلمت القراءة والكتابة وقُبلت في أكاديمية فلورنسا الفنية عام 1616 كأول أمرأة تُقبل في الأكاديمية العريقة، وحظيت برعاية كويزمو دي مديتشي الثاني دوق فلورنسا، رغم التنافس الشديد من قبل الفنانين لنيل الحظوة لدى أسرة الميتدشي المعروفة بحبها للفن والفنانين. في هذه الفترة أبدعت عدداً من لوحاتها الشهيرة منها (جوديث تحزُّ رقبة هولفرنس) وصور ذاتية تصور نفسها كالقديسة كاترينا الإسكندرانية وأخرى كعازفة عود، والملاحظ أنها بكل لوحاتها تستثمر مكابداتها وقوة شخصيتها من خلال إحلال ملامحها الذاتية على شخصياتها النسائية التوراتية ذوات الأذرع القوية، وكثيراً ما ذكَّرتني هذه البورتريهات الذاتية بلوحات الفنان الهولندي رامبرنت الذاتية. في بلاط كوزيمو الثاني التقت بأشهر علماء وفناني عصرها مثل غاليليو غاليلي والشاعر مايكل أنجلو بوناروتي ابن أخ الفنان مايكل أنجلو وارتبطت بعلاقة عاطفية مع نبيل فلورنسي يدعى فرانسيسكو مارينغي. لم تخل سنواتها الست في فلورنسا من المصاعب، فقد توفي أربعة من أطفالها الذين أنجبتهم في سنوات متلاحقة وتعرَّضت لمصاعب مادية اضطرتها إلى الرجوع لروما وبيع مقتنياتها في فلورنسا لتسديد ديونها.
حين عادت أرتيمسيا إلى روما عام 1620 كانت قد حازت شهرة واسعة وكان المقتنون يتسابقون للحصول على لوحاتها وسرعان ما انخرطت في الحياة الفنية وفي حلقات الفنانين الأوربيين في روما، ربطتها صداقة مع الفنان الفرنسي سايمون فوييه(1590/1649) وهو أبرز ممثلي الكرافاجية (نسبة إلى كارافاجيو) حيث رسم لها بورتريت هي تحمل لوحة ألوانها وفرشاتها ترسيخاً لحضورها ومكانتها كفنانة، وكذلك التخطيط المذهل ليدها اليمنى وهي تحمل فرشاتها الدقيقة رسمه الفنان الفرنسي بيير دومنستير الثاني لها من تلك الفترة. بينما استمرت ارتميسيا برسم اللوحات الكبيرة التي تصور مشاهد دينية وميثولوجية والتي كانت محك لإثبات براعتها الفنية، واستمرت أيضاً تزيح نساء لوحاتها عن الأنوثة والرقة وتجعلهن فاعلات مسيطرات حيث رسمتهن بواقعية دراماتيكية وبأذرع مفتولة وقوة ممزوجة بعاطفة هشَّة كما في لوحة (ياعيل وسيسرا/ 1620). سيموت ابنها كريستيفانو ولم يبلغ الخامسة من عمره، وفي هذه الفترة سيختفي أي أثر لزوجها أيضاً. وستنتقل إلى البندقية بين الأعوام (1927 - 1630) ربما للبحث عن رعاة أثرياء لفنها لكنها سرعان ما ستتخذ مدينة نابولي التي كانت تحت السيطرة الإسبانية مستقراً لها لما تبقَّى من حياتها ربما بدعوة من دوق المدينة الإسباني الذي كان من هواة فنها واقتنى ثلاثاً من لوحاتها، حتى قبل وصولها إلى المدينة. سرعان ما سترسم أرتيمسيا أعمالاً فنية لكاتدرائية المدينة منها لوحة (ولادة القديس يوحنا المعمدان). لكنها ستلتحق بأبيها اورازيو في لندن بدعوة من الملك ريتشارد الأول في عام 1638 ربما لمساعدته في تزيين سقف قصر الملكة هنريتا ماريا في منطقة (غرينتش) لكن اورازيو سرعان ما سيموت فجاة تاركاً ابنته كرسامة في بلاط الملك ريتشارد الأول. وأبرز لوحة من فترة وجودها في لندن هي (صورة ذاتية كأمثولة للفن/ 1638) والتي تصور بها نفسها كرمز فني متماهية مع عملها وتحمل قي يديها أدواتها الفنية وقلادة لجمجمة ترمز إلى الفناء تتدلى من عنقها، اللوحة تمثل تحدياً حقيقياً لنبوغ أرتيمسيا الفني، حيث استعملت الفنانة عدة مرايا كي ترسم انعكاس صورتها من زوايا عديدة، وقد لجأت بحذق إلى تقنية التقصير والعتمة المضادة للضوء وغيرها من التقنيات ثلاثية الأبعاد لجعل المشاهد ينجذب لاشعورياً ويميل بجسمه نحو اللوحة، هذه اللوحة ضمن المقتنيات الفنية للعائلة الملكية البريطانية.
عادت أرتيمسيا إلى نابولي بعد اندلاع الحرب الأهلية في بريطانيا عام 1642 ولا يعرف تاريخ موتها، لكن آخر لوحة رسمتها هي (سوزانا والعجوزان) والتي تعود لعام 1652 وهناك أعمال فنية لها لاتزال ضائعة، مثل لوحة ( ديفيد مع رأس غولياث) التي تمت إعادة اكتشافها في لندن عام 2020 والتي ربما تكون أرتيمسيا قد رسمتها لمقتن إنكليزي خلال فترة إقامتها في لندن.
لقد حققت أرتيمسيا جنتالسكي إنجازاً فنياً كاد أن يكون من المستحيل تحقيقه بالنسبة لأمرأة في عصرها لدرجة أنها تستحق أن تكون واحدة من أشهر الفنانات في العالم، لقد امتلكت رؤية فنية وشخصية قوية وغالبية لوحاتها ترسيخ فني لحياتها ومأزقها الإنساني مثلها كمثل فريدا كايلو ولويز بورجوا. تم الاحتفاء بها في معارض استعادية عديدة حول العالم، منها معرض الناشنول غالري في لندن عام 2020 الذي تم التحضير له لمدة خمس سنوات.
تم استلهام فن وشخصية أرتيمسيا في العديد من الأعمال الأدبية والفنية والأفلام، وكانت الروائية الإنكليزية جورج إليوت (1819/1880) أول من وظَّفت ملامح من أرتيمسيا وحياتها في روايتها التاريخية (رومولا) التي تدور أحداثها في فلورنسا القرن الخامس عشر. لكن من أشهر الأعمال الروائية عن حياتها هي رواية (شغف أرتيمسيا) للروائية الأميركية سوزان جويس فيرلاند (1946/2017)، ورواية أخرى بعنوان (طلاء الدم والماء) للروائي الأميركي جوي ماكولو. في السينما تناولتها المخرجة الفرنسية آغنيس ميرليت في فلم درامي بعنوان (أرتيمسيا/1997).