هوس جمع الكتب.. البهجة والمنفى

ثقافة 2023/10/04
...

البصرة: صفاء ذياب

ما زال الكثير منّا يشتري الكتب ويكدّسها في مكتبته الخاصة، من دون أن يتمكّن من قراءتها كلّها، بل وصل الأمر بالبعض إلى الهوس بجمع الكتب من دون التفكير بالقراءة حتّى، وهو ما عرف في الثقافات القديمة بأسماء كثيرة. ففي الثقافة اليابانية مثلاً، كان أطلق مصطلح (تسوندوكو) الذي يعني الكتب المُهملة والمتروكة فوق الرفوف ولم تُحظى بالقراءة. ويصف المصطلح أيضاً الأشخاص الذين يكدّسون الكتب من دون قراءتها.

 في حين عرف المصطلح في الثقافة الإنكليزية باسم (ببلومانيا)، الذي يعني الهوس بجمع الكتب أيضاً.
ويعود (تسوندوكو) إلى أواخر القرن التاسع عشر في اليابان، وفي لقاء أجرته قناة BBC مع البروفيسور (أندرو جيرستل)، المتخصص في الأدب الياباني ما قبل المعاصر في جامعة لندن ببريطانيا، يقول إنَّ كلمة “دوكو”Doku يمكن استخدامها كفعل بمعنى “يقرأ”، أمّا اللاحقة “تسون”Tsun فيعود جذرها إلى كلمة “تسومو”Tsumu التي تعني باللغة اليابانية “التكديس”، فعند جمع القسمين معاً نحصل على كلمة “تسوندوكو”Tsundoku التي تحمل معنى شراء المواد المقروءة وتكديسها.
 ببلومانيا
أما المصطلح الثاني الذي أطلقته الثقافة الإنكليزية على هوس جمع الكتب، فهو (ببلومانيا Bibliomania)، فبحسب الباحثة آية ممدوح، أنَّه في القرن التاسع عشر، كتب القس الإنكليزي توماس فروجنال ديبدين عن اضطراب عانى هو شخصيا منه، في كتابه “ببلومانيا”، وصف ديبدين أعراض هوس الكتب وأشار إلى أنواعه، ومن بينها جمع الطبعات الأولى، والطبعات الأصليّة، والكتب المطبوعة بالخط القوطي، والنسخ الورقية الكبيرة. ووفق ما ذكر ديبدين فقد بلغ “طاعون الكتاب” ذروته في باريس ولندن بعد الثورة الفرنسية عام 1789، وأكَّد أنَّه كارثة قاتلة ومرض يصيب الكُتَّاب، ويهاجم الذكور بالأخص، من الطبقات العليا والمتوسطة، تاركاً الطبقات الأدنى في سلام.
وتوضّح الكاتبة مروة الأسدي، أنَّ البيبلوماني يُعرف بعدّة صفات، فالإشارات الأولى لهذا المرض تبدأ بالشعور بالبهجة والسرور عند مشاهدة أي كتاب، وسرعان ما ينقلب الأمر إلى الرغبة في اقتناء ومطالعة أي كتاب من أي نوع.. أما المرحلة المتقدمة منه فتتميّز بالرغبة في تجميع أكبر قدر من الكتب لمجرّد التجميع على افتراض إمكانية الاستفادة منها يوماً ما.
البيبلوماني له تصرّفات غير طبيعية، مثلاً: إن أحترق بيته فإنَّ أول ما يفكر بإنقاذه كتبه الخاصة. يكون في قمّة بهجته حين يحضر أحد معارض الكتب، أو حتّى يسمع بإقامتها في مدينة أخرى. إنسان يرتدي بالضرورة نظّارة طبّية ويصاب بصداع مزمن لعدم قدرته على ترك الكتاب الجيد في الوقت المناسب. لا يملك حساباً في البنك لأنَّه لا يستطيع كف يده عن أيِّ كتاب جديد، حتَّى وإن كان بلغة لا يعرفها. بناءً على النقطة السابقة تجده دائماً يحاول إقناع نفسه بأنَّه عند الضرورة سيبيع الفائض منها، ولكنّه في الحقيقة لا يقبل حتّى إعارتها. وأخيراً لا يتذكّر تاريخ زواجه أو في أيّ المراحل يدرس ابنه، ولكنّه يتذكّر تاريخ وظروف شراء أي كتاب يملكه.
 الأسباب والأعراض
حدّد علماء النفس، أسباب هوس جمع الكتب وأعراضه، مبينين إنَّ من أهمّها حب القراءة من الصغر، محبة جمع الكتب، تفضيل مظهر الكتب، إثبات أنَّه مولع بالقراءة، متعة القراءة.
في حين أنَّ من أعراضه: شراء كميات من الكتب، التحدّث عن فضل القراءة طوال الوقت، شراء الكتاب قبل معرفة محتواه، وضع الكتب في كافة نطاقاته، يقضي وقت فراغه مع الكتب، دائم التردّد على المكتبات، الهروب من إعارة الكتب، سرقة الكتب.
ويرى علماء النفس؛ بحسب الكاتب يوسف أحمد الحسن، أنَّ المصاب بهذا (المرض) به لا يشعر بذنب من قيامه بالسرقة، بل إنَّه قد يجد مبرّرات لهذا العمل كما حصل مع “ستيفن بلومبرج” الذي يعدُّ أكبر سارق للكتب في العالم بمجموع بلغت حصيلته أكثر من 23 ألف كتاب ضمّت نسبة كبيرة منها كتباً نادرة وبعض المذكّرات الأصلية، فضلاً عن قيامه بسرقة أموال أنفقها على شراء الكتب. فعندما اعتقل بلومبرغ وكَّل محامياً للدفاع عنه، إذ برّر سبب قيامه بذلك أنَّه كان يحاول تحرير هذه الكتب من الحكومة، التي زعم أنَّها كانت تحاول منع الناس من الاطلاع على الكتب النادرة، وأنَّه يعدُّ نفسه أميناً عليها فقط. وبرغم ذلك فقد حكم عليه بالسجن لاثنين وأربعين عاماً تمَّ تخفيفها إلى عامين مع إرجاع الكتب التي سرقها، وذلك بعدما أثبت محاميه أنَّه كان يعاني من سلوك قهري كان يدفعه إلى السرقة.
أمَّا تاريخيّاً، فإنَّ أشهر سارق للكتب كان الدوق ليبري في القرن التاسع عشر في فرنسا الذي دفعه حبّه للكتب إلى القيام بسرقات كبرى للمكتبات العامة، وعندما وجّه إليه اتهام بالسرقة هرب إلى إنكلترا ومعه ثمانية عشر صندوقاً محمّلاً بالكتب ولم يقم إلَّا بإعادة كتاب واحد فقط.
 حمّى القراءة
تبحث الكاتبة كارين ليتاو في كتابها (نظريات القراءة.. الأجساد والكتب والشغف بها)، الذي ترجمه محمود أحمد عبد الله، عن بوادر ما تسميه بمرض (حمّى القراءة)، معرفةً إيّاه بأنَّه إدمان مرتبط بهوس القراءة والإفراط فيها، إذ ينتقل القراء من رواية لغيرها على عجل. وتشمل مظاهرها الاجتماعية الكسل العام، وكراهية العمل، والمفاهيم الرومانسية السامية. وخلال القرن التاسع عشر، أصبحت آثاره مقلقة وواسعة الانتشار “لدرجة عدّه مرضاً يتطلّب العلاج من باللجوء للأطباء” “مرض قراءة الروايات”. وتراوحت أعراضه الطبّية بداية من الشعور بالإمساك، وترهّل المعدة واضطرابات العين والدماغ، حتَّى مشاكل الأعصاب والأمراض العقلية. وبالتالي صاحب ارتفاع معدّلات نشر المطبوعات وزيادة مستويات القراءة ليس فقط تغذية جوعى الرواية، بل والإفراط في إطعامهم. ونظراً لأنَّ الرواية منتجاً استهلاكياً، يجب قراءته بسرعة، ثمَّ التخلّص منه، فقد قدّمت- مثلها مثل السينما لاحقاً- دفعات ترفيهية قصيرة العمر، مليئة بالمشاعر الرخيصة أو الإثارة، وكما رآها ويليام وردزورث، قدّمت “طوفاناً من قصص الخمول والإسراف”. وبقدر ما شجّعت القراءة النهمة للرواية أيضاً ممارسات القراءة في عزلة و”على عجل”، فظنَّ أنَّ استمرار ذلك سيكون من آثاره “إضعاف العقول” بين الرجال والنساء، ممَّا يجعل ألياف أجسادهم مترهّلة ويقوّض قوّة الأمم”.
وتضيف كارين أنَّ العديد من كتّاب المقالات في الصحف الدورية البريطانية بين عامي 1860 و1900، طرحوا تساؤلات “هل التوق إلى الكتب لا يعدُّ مرضاً” أو هل “القراءة [...] قد تكون ضارّة بشكل إيجابي”، مؤكدين أنَّ هذه المخاوف كانت حقيقية جدّاً وليست مجرّد كلام. وفي الواقع، “أصرَّ هؤلاء الكتّاب” على أنَّ “العلاقة بين القراءة والمرض أبعد ما تكون عن عدِّها عبارة مجازية. فهذا الارتباط، بدلاً من ذلك، هو ارتباط حرفي وسبب مباشر”.
 الهوس عراقياً
في طرح صحيفتنا لهذا الموضوع على منصتها الفيسبوك، حاول الكثير من الكتّاب والمثقفين العراقيين ذكر حالاتهم الخاصة، وعلاقتهم بالكتب التي يقتنونها.
فيبين الشاعر صالح رحيم أنَّ ما تراكم في المكتبة يفوق ما قرأته بكل تأكيد، أحياناً أشعر بالألم، على مصيري أولاً قبل أن أقرأ ما حوته وما تحويه المكتبة، وعلى المكتبة ثانياً، يخيّل لي أن يداً ستعبث بها أو تُهمل.. أتذكّر أنَّني كتبت نصّاً عن المكتبة، بعنوان” هولاكو في المنزل” ترى هل أبالغ؟
في حين يؤكّد الروائي محمد سعدون السباهي أنّه “لا أشتري كتاباً أعرف أنّي لن اقرأه.. ولا أحب الكتابة في مكان تعمّه الفوضى والأصوات العالية.. إذ إنَّ الكتابة نشاط ذهني تنظمه علاقات عصبية متناغمة ومرتبة، ومن ثمَّ لكي تتسلسل الأفكار بنحوٍ أفضل، يجب أن يكون المكان هادئاً.. منظر الكتب غير المرتّبة والأثاث وما إلى ذلك. بالنسبة لي عوامل تشتت التركيز وتسيء للكتابة، ولذا أفضّل بدلها أن تحيط بي على جدران غرفتي، صور لعباقرة العالم على اختلاف نشاطاتهم الفكرية: ماركس، سارتر، كافكا، غاندي، جيفارا، السياب، فرويد، إذ تمدّني صورهم المفعمة بالحيوية والذكاء، العزيمة والصبر والجَلد..
ويكشف الروائي محمد مزيد أنَّ “واحدة من أشد أوقاتي سعادة هي الجلوس بين كتبي في بغداد، للكتابة، أعرف أنَّني لم اقرأ نصف الكتب، كانت بحدود خمسة آلاف كتاب، لكنّني بمجرد الجلوس إلى طاولة الكتابة، حتَّى تنهمر عليَّ الأفكار، هناك طاقة إيجابية فوق المعتاد تدفعني لأكتب، لاسيّما في الفجر، حيث الصمت الذي كان يحاورني، ويلقي عليَّ بموسيقاه الصاخبة التي تخرج بسببه حروفي تتطاير على الورقة البيضاء، هل رأيت كلمات لها أجنحة، نعم، تحصل هذه الحالة عندي، في أوقات الفجر عادة، وأنا أجلس بين كتبي”.
ويقول الكاتب السعودي حامد بن عقيل إنَّ تسوندوكو ليست الطاقة الإيجابية فقط، بل الشعور بالدفء. منظر الكتب حولي، والبطاقات البحثية، ودفاتر الملاحظات يعني أنَّني حال الكتابة لن أضطر للتوقّف ومغادرة المكان. من يحترفون الكتابة يعلمون أنَّ هناك حالة جلوس، تسبقها ساعات وأيام وربَّما أشهر في التفكير والهجس حول ما ستكتبه. جلست مرّة ما يقرب من 8 ساعات متصلة تقريباً، ليست هناك مشكلة ما دمت في غابة الورق خاصتي، ودفء وجود الخبر يحفني. لم أقرأ، في الغالب، إلَّا كامل الكتب المرجعية والمعاجم والأدلة والموسوعات. ثمَّ هناك ربَّما 10٪ لم أطلع عليها لضيق الوقت، لكنها تبقى جاهزة على طاولة القراءة.
ويشير لقمان السبتي إلى أنَّ هناك ما تمّت قراءته، وهناك من ينتظر بحسب المزاج، وهناك من يقف كمصدر مرجعي، وهناك من يقف كمشاهد إلى أن يتجمهر المشاهدون أكثر فأكثر؛ فكثرة الجمهور تبعث في نفسي طاقة ولذّة فيها مباهجي! والخلاصة، أحبُّ تجميع الكتب حتّى لو كانت بلغة منقرضة لا أفهم منها حرفاً واحداً!
ويختم القاص زهير كريم الموضوع بقول: لا يوجد في مكتبتي ما لم أقرأه، أو ما لا أنوي الاطلاع عليه، هناك كتب قليلة تنتظر دورها، وأخرى وصلت إليَّ بدون أن استدعيها، وهذا لا يمنع أن أتصفحها، بالطبع هناك نوع من الكتب أعود اليها دائماً، والمكتبة متواضعة على كل حال، الاصدارات كثيرة، شلّال لا يمكن السيطرة عليه، منها ما هو مهم، ومنها ما يمكن ترك اللقاء به للصدفة، أمَّا معظم ماء الشلّال ستذهب بعيداً من دون أمل بقطرة منها. بالطبع لا يمكنني أن اشتري وأتفرّج، أشتري لكي أقرأ، الكتب غالية وهذا سبب من بين أسباب أخرى لتشكيل صفة (مكتبة متواضعة). علاقتي بمصطلح (تسوندوكو) تخصُّ الكتب الالكترونية ربَّما، أحمّل الكثير ولا أقرأ كلّ شيء، أعتقد أنَّي لو حصلت على تل من الكتب مجّاناً أو بسعر بسيط، سوف أحمله إلى البيت، وبهذا سوف أدخل عائلة (تسوندوكو) سوف أشعر بالحسرة برغم ذلك، أتأمّل كلَّ هذه الأسرار المخبوءة في الرفوف ولا أستطيع الوصول إليها بسبب الوقت.