القصّةُ القصيرةُ في النجف.. إجراءٌ تطبيقيّ

ثقافة 2023/10/04
...

أ.د. جاسم حسين الخالديّ

الإضاءة الأولى
       يُشاعُ الآن أنَّ الحديث عن القصة القصيرة جدًا، هو حديث تعويضيّ عن غياب القصّة بشكل عام، أو عن انحسارها، بعد أن أخذت الرواية مساحةً شاسعةً من لدن عناية الكاتب العربي، وهو أمر مبالغ فيه؛ لأنَّ أصحاب هذا الحديث لا يستندون إلى إحصائية دقيقة، فكل ما لديهم، هو ولع الروائي العربي بالرواية، بوصفها فنَّ العصر، والجوائز المتعددة التي تمنح للرواية دون القصة، أو الشعر، لكن الأمر الواضح عندي، على الرغم من علو كعب الرواية من جهة، وأنَّها أصبحت مطية لمن لا مطية له، من جهة أخرى، أنَّ القصة ما زالت تغوي الكتّاب، وجمهور القرّاء، فلو سألت المشتغلين بالرواية الآن، تجد أن القصة والرواية تسيران في سلم نتاجهم بخط متوازٍ، وإن غلبت الرواية في وقت من الأوقات، ولكن هذا لا يعني البتة أن القصة تعاني، أقول إنَّ هذه العناية بالقصة القصيرة جدًا، تبعث جوابًا، أن القصة موجودة، وليس أدل على ذلك، أنَّها بدأت تجدد نفسها وتحدث أنظمتها، عبر ما تعارف على تسميتها بـ “القصة القصيرة جدًا”.

    أكاد أكون من الذاهبين إلى أنَّ تعدد الأجناس الأدبيّة سمة حسنة؛ ولكن ليس كذلك دائما، فليس من المعقول أن يحدث كاتب من طريقته في الكتابة السردية، حتّى نزعم أنَّه اجترح جنسًا أدبيًّا جديدًا، ونضع الكتاب – نحن معشر النقاد- والقرّاء، في حرج كبير، فالقصة قصة، بغض النظر عن طولها وثيمتها وتقنياتها، ولكن المهم أن الأجناس السردية ينبغي أن تأخذ حصتها من التحديث من داخل بيتها السرديّ، لا عن طريق العزل والانفصال؛ فالانفصالُ سيكون قسريًّا، ولم يستطع يومًا أن يخلق منطقةً خاصةً به، من دون مشاركة الأجناس الأخرى فيه.
     وما دام مثل هذا المؤتمر مخصصًا للقصة القصيرة، أضع رأيي جانبا وأخوض في جوانب فنية دعت المتمسكين بالقصة القصيرة جدًا، إلى أن يمضوا باتجاه عزلها عن بيت القصة العام، مثلما وجدت أنّ  أحاديث بعض النقاد عنها، تبعدها عن القصة والرواية، وهو حديث أقرب ما يكون إلى قصيدة النثر؛ بسبب طبيعة القصة القصيرة جدًا التي تشتغل على اللغة أكثر من اشتغالها على عناصر السرد الأخرى، وإن كان ذلك بدرجات. وإنَّ هذه اللغة هي التي جعلت من النقاد من يربط بين القصة القصيرة جدًا وقصيدة النثر.
إن قارئ المشهد القصصيّ العراقيّ، على الأقلّ في رموزه، يجد أنّهم كانوا يزيّنون كتبهم السرديّة بعدد من هذه القصص من دون إفراد كتاب خاص بها، وهذا يعني إيمانهم بأنّ ما يكتبونه هو قصة بغض النظر عن طولها. وأنّها ليست أقلَّ من صاحبتها الأطول منها.
الإضاءة الثانية:
     أخذت القصة القصيرة جهدًا من عناية الكتاب العراقيين منذ ستينيات القرن الماضي، ولكن الباحثين  في الشأن القصصي العراقيّ يشيرون إلى أن هناك بعض المحاولات الأولى لكتابة قصة قصيرة جدا، منها ما نشره ( نوئيل رسام في جريدة البلاد البغدادية في حزيران 1931م بعنوان ( موت فقير)، وما نشره أيضا في جريدة الزمان تحت عنوان ( الإخوان واليتيم)، لكن الحقيقة، أن كتابة قصة واحدة أو اثنتين، لا تشكل شيئا ذا قيمة في طريق طويل لا بد من أن يُملأ بجهود كبيرة، حتّى يمكن أن تنسب الريادة إليه.
المهم في الأمر، أنّ الأديب العراقي، وإن كان في مرحلة سابقة، كان مجربا، لا يقبل الأشياء على علّاتها، ولذلك ننظر إلى محاولة نوئيل رسام بعين التقدير، لكن معطيات البحث العلميّ، لا تسعفنا برفعها إلى مصاف الريادة، ولاسيما أن القصة العراقية، مرت في مرحلة اقتربت من الحداثة والتجريب أكثر في ستينيات القرن الماضي، إذ كان هذا الجيل مهووسًا بالتجريب إلى حد كبير في الأدب والفنّ على حد سواء.
    وأظن أنّ النموذج الذي قدمه خالد حبيب الراوي في مجموعته ( العيون) ، وإبراهيم أحمد في (عشرون قصة قصيرة جدا) في عام 1971م، وحمدي مخلف الحديثي، ومحمد سعدون سباهي، وفرج ياسين، وغيرهم، كان البداية الفنية الحقيقية لهذا اللون السردي الجديد، فضلًا عن قصص أخرى جاءت في ضمن كتب قصصية لكتاب آخرين.
ومن هنا أثمن عناية اتحاد الأدباء في النجف في مؤتمره الرابع الخاص بالقصّة القصيرة جدًا؛ لنقف على بعض النماذج القصصية لنرى فيها مقدار اقتراب هذه النصوص من فن القصة القصيرة جدا أو ابتعادها، ولا يكون ذلك ممكنا، ما لم نعرف أهم اشتراطاتها التي على القاص أن يعرفها، لتكون قصته نتاج هذه المعرفة لهذا الفن.
وقد أوجز الكاتب هيثم بهنام بردى البنى الارتكازية لها بالقول: “ تحويل الزمن إلى لمحة قصيرة ساعة أو يوم، وبضع يوم، كما يتحدد المكان بأبعاده المادية لا يتعدى غرفة أو حيزا من حقل، ويكون الحديث محصورًا بشأنٍ واحدٍ، وينبغي ألا تزيد المقدمة على سطر أو سطرين أو أربعة أسطر على أكثر تقدير، ويفضل ألا تتجاوز الذروة ثلاث أو أربع حوادث أو تكون ضمن مشهد واحد، ويجب أن تكون النهاية برقية مرتكزة في بؤرة واحدة، وأن تحرك ذهن المتلقي”.
 وعلى وفق هذا التوصيف نقرأ بعض النماذج القصصية لبعض كتاب النجف الأشرف، وأول ما نقف عنده قصة ( الوصية) لصباح عنوز المنشورة في مجموعته القصصية ( ما قاله يوسف)، فقد كان لتقنية الحذف حضور مهم، في بناء هذه القصة؛ لتحقق التكثيف اللغوي، أو الاقتصاد اللغوي؛ إذ كان عليه تحويل الزمن إلى لحظة خاطفة، مثلما عليه تضييق عنصر المكان إلى أصغر ما يكون ( خزانة حديدية)، يقول عنوز:” منذ أربعين عامًا والأوراق محفوظة في خزانة حديديّة، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها... “. ثمَّ يوظف خاصية أخرى، هي أقرب ما تكون إلى تقنية حسن التخلص الموروثة من القصيدة العربية القديمة التي كانت كثيرًا ما تحضر فيها كلمة ما؛ لتكون حدًا فاصلًا بين لوحات القصيدة نفسها.
      فقد استعان الراوي العليم بـمفردة (اليوم) وهي مفردة مفتوحة زمنيًّا، فقد تعني: الزمن الحاضر، ولكن ليس بدلالته المعروفة نحويًّا، ليغادر الماضي تمامًا، ويفتح كوى الحاضر؛ ليتحدث عن المآل الذي صار عليه ذلك الشاب الذي احتفظ بما تُركَ له من أوراق في خزانة حديديّة، التي تعود بالذاكرة إلى الأسرة العراقية التي يندر أن لا تجد لديها مثل هذه الخزانة التي تحفظ فيها موجودات الأسرة وخصوصيتها: “اليوم، بعد أن يغادر أبوها الدنيا وتفشى الوهن في جسده، اتسع عوزه المادي؛ ليسرق منه صلابته”.
لا يمنعُ قصرُ النصِّ وكثافتُهُ من حضور( تقانة الحوار) في نص ( الوصيّة)، بفضل براعة الكاتب اللغوية، إذ وجد فيه عنصرًا مضافًا لخلق شعرية القصة، وتحقيق المعنى المتواري داخل السياق. وقد قصره على لسان الزوجة “سعدى: فجأة قالت زوجته سعدى إنها الوصية”.
     أمّا النهاية، فقد أحكمها الكاتب إحكامًا فنيًّا؛ إذ أقامها على عنصر المفاجأة، وجاءت على خلاف أفق المتلقي، لتؤسس لواقع جديد، لم يسلم منه المخاطَب، أمدًا بعيدًا: “ أخذت زوجته الورقة، لم يلحظ سوى عبارة: “ سامحني أنت لست بابني الشرعي، وهذه ورقة ميلادك”.
    وفي نصوص ثلاثة، لإبراهيم كمين الخفاجي، (استمرار، وعربات فارغة، والسفلة)، يؤسس الكاتب لفكرة تصور الإنسان أن بإمكانه التخلص مما حوله من جرائم وأدران، فاختلق قصة أقرب ما تكون للخيال منها إلى الواقع: “ أمسك مدية.. وبحركة حاسمة تتوخى اختزال زمن الألم حطّم قضبان صدره، ثمّ هوى  بها إلى أسفل جسده مطلقا صرخات مجنونة”.
      ليخرج منها هذه الحكاية المختلقة: حكاية داخل حكاية، أنَّ المصير الذي يعيشه الإنسان هو واحد، بغض النظر عن المكان الذي ينتسب إليه، ويقيم فيه: “ تقاربت الأرواح وسرى همس محتقن باحتجاج مرير”.
      ثم تلت ذلك، الحوارات التي جرت بين تلك الأرواح؛ ليؤكد ما ذهب إليه من معنى، تكاد تكون عتبة المقدمة قد تعهدت بهذا المغزى، وهو خطأ سردي وقع به الكاتب، وجاء ذلك على وفق أفق المتلقي، ولم تنفعها خاتمتها التي انتهت من حيث ابتدأت: “ إذن سأغادركم.. أنا بحاجة إلى مدية أخرى”.
     وفي القصة الثانية للكاتب نفسه، وهي تحمل ذات الثيمة، وهي التذمر الكبير الذي عليه الناس، والاحتقان الذي يتناسل عند الناس، بشكل عجيب، فالمقدمة التي استهل بها القصة، لا تكاد تختلف عن مقدمة القصة السابقة، فهي ابتدأت بعبارة:” فداخلُ  كلٍّ منا مقبرة لأجداد كثر يفيقون لأدنى استفزاز بعزائم لا تلين”. واضح هي مقولة، وضعها الكاتب بين اقتباسين، لتأتي القصة كلّها، لإثبات صحة تلك المقولة، عبر البحث عن الأسباب التي تجعله غير مقبول من هذا، مع أنَّه لم يرتكب ما يجعل الآخرين حانقين عليه، فلم يجد إلَّا ما يدعى بـ ( تنافر الأرواح)، وقد وصل هذا السلوك الشائن حدًا إلى العودة ثانية للتلاسن والضرب بالعصي.
تكاد تكون هذه القصة نسخة مصغرة من القصة الأولى، فالبداية والنهاية كانت واحدة؛ فالكاتب كما أشرت، قد عاد إلى نقطة الصفر، وللمفردات ذاتها، كما أن التعامل مع المعنى كان مباشرًا من دون أي ترميز، وهو أمر يتنافى مع شعريّة القصّة التي تتطلب خيالًا كافيّا، مع مقدار من لوازم الشعر، وهو الإيحاء. فضلا عن ذلك، فإن العنوان كان كلاسيكيُّا، أفسد ما كان يمكن أن يلتحف به المضمون من معنى، ولذلك ما كان يحتاج المتلقي إلى كدِّ ذهنٍ كبيرٍ ليربط العنوان بمضمون النص؛ فالسلوك الهابط الذي ابتلي به بعض الناس، وصدّع الرؤوس بضجيجه، هو نتاج عقليات خاوية، وهي مصدر هذا الضجيج، مثلما كان الضجيج هو نتاج تدافع العربات الفارغة.
كما أنَّ استلهام المقولات والأمثال، كان سلبيًّا، بالضد مما أراد الكاتب، فربّما كان الكاتب يتوقع أن ترصيع جسد القصة بقول أو مثل، يزيد من دلالة المعنى، ويرسخ المغزى بشكل عام.
وفي القصة الثالثة، تكاد تكون اللغة قد خانت الكاتب، فراح يتوسل بالجمل التقريرية، التي كان قوامها فعل الأمر، وهو ما جعل اللغة الشعرية تنحسر؛ لتسلم القياد إلى وصايا ومواعظ، قصمت ظهر القصة، لذلك جاءت النهاية سائبة من دون إحكام.
وفي قصة (آثار جانبية لزواج شرعي جدًا)، نجد بساطة الفكرة التي انطلق منها عبد الحكيم الوائلي، ففيها من السطحية، ما جعل مساحة التخييل تتقلص إلى درجة أن أفق توقع المتلقي كان يراوح في مكانه، فضلًا عن ضعف اللغة وركاكتها، فالابتداء بالاستفهام، “ ما الذي يسع طفلة في العاشرة إلا أن تستسلم لكهلٍ في الخمسين؟”، جعل المتلقي في مواجهة سابقة، فقد كان على علم بالإجابة، لذلك كانت النهاية ضعيفة، وخلت من المفارقة التي تكاد تكون الوصفة التي ترتفع بالقصة فنيًّا. فضلًا عن إخفاق واضح على صعيد اللغة، إذ لم تنفع استعانته ببعض الألفاظ ذات الوقع الرومانسي؛ يقول الوائلي: “فرغت يداه الشرهتان من نزع الأكمام عن الوردة، فلم تعد وردة بعد . ابتلع الليل الصرخة .. هوت الدميةُ من السرير السابع إلى الأرض بصوت مدوٍ.. فيما كانت السماء تتلصص عبر زجاج النافذة، وتلوذ بصمت القوادين” .
على الرغم من ذلك، فإن القصة احتوت على شيء من الترميز، يتمثل بالدمية التي جعلها معادلًا موضوعيًّا للطفلة، إذ جعلها تحتج على هذا الفعل الشائن، في حين كان الإنسان بلا موقف يسجل، وهو يدري أن السماء تسجل كل صغيرة وكبيرة.    
  أما القصة الثانية للكاتب نفسه، فإنها كانت عبارة عن حدث تقليدي، مكتوب بلغة تقريرية، خلت من عنصر المفاجأة أو المفارقة التي ينتظرها المتلقي، ولم يستطع الكاتب أن ينهض بها، على الرغم من أنّه حاول أن  يمسَّ بعض المحظورات، إذ إن القصة بقيت تعاني من خلخلة واضحة في بنائها.                                                                              
ومن جهة أخرى، ثمة قصص قصيرة جدًا، عبارة عن جملة سرديّة واحدة، جملة الشرط وجوابه، وهي جملة اعتمدت على الانزياح لتحقيق صورة سردية، ومع ذلك لم تحفل بمستوى عال من الشعرية، من ذلك، “كلما أراد الخروج إلى الشارع، تذكر أقدامه التي أكلتها الطرقات...” لأحمد محمد الموسوي.
أما القصة الثانية، “ بينما يتثاقل الذباب على جثث الضحايا، تطير الفراشات خفافاً نحو السماء... “، فقد اعتمدت على المفارقة التي اختارت فاعلين سرديين الذباب والفراشة، لإقامة علاقة بين الجمال والقبح.
أما النصّان الأخيران لمحمّد العلوي، فقد أقام (الأولى) على ترميز شفيف، يتمثل بالمرآة التي تشير إلى ذلك الجرح الذي صار رمزًا لمأساته، يقول الكاتب: “ نَهشَ أصابعي القلق. كُلَّما نظرتُ في المرآة؛ أرى عيوناً تخترقُ داخلي! كَبُرَ وأصبحَ هاجساً، لا يزال ولدي يُقلقني رغم مرور عشرة أعوام على حادثةِ وفاته”،  في حين كانت الثانية (تماثل) التي أقامها على رمزية الأرنب في الذاكرة الشعبية، وهي خلاف ما يعرف عنه في الموروث القديم؛ من دلالة إيجابية، فإنّه كسر أفق التوقع، بأنّه جعله أرنبًا، مثل الأرانب التي تتقافز فوق بيت ذلك الرجل، لقد نهضت اللغة ببنية هذه القصة التي قامت على لعبة الأفعال المضارعة والماضية، لتحقيق المعنى المراد. يقول الكاتب: عجيبٌ أمر هذه الأرانب! أراها تتقافز فوقَ بيتِ ذلك الرجل الكبير، وتعبثُ باسمه وهو لا يُحرّكَ ساكناً! قلتُ في نفسي: ربما يعودُ سبب ذلك لعدم درايته، والإ لكان نهرهم. حينَ دخلتُ لمنزلهِ؛ لم تكن ورقته قد سقطت فحسب، بل كان أرنباً أيضاً.  
    ختامًا نقول: إنَّ ما تناولته في هذه الدراسة الموجزة، لا يمثل القصّة النجفيّة بشكل عام، فَثَمَّ كتاب كثيرون، ونصوص لم تصل إليّ، لذلك تبقى النتائج التي توصلت إليها في حدود النصوص التي مثّلت بها، وسأوسّع من مدار الدراسة مستقبلًا بإضافة نصوص أخرى تمثّل روح القصّة العراقيّة في النجف.