الهوية والانتماء إلى المشرق سمة تلاحق أعمال جبران طرزي
خضير الزيدي
في العام 1944 ولد الفنان جبران طرزي ،بدت تلك السنة إيذاناً بولادة شخصية فنية وقع على كاهلها حمل سفر العائلة وإنجازاتها الفنية بعد أن أبدعت تلك الأسرة العريقة من (آل طرزي) في إنتاج ما يسمى عناصر الديوان الدمشقي والتي ملأت أسقف وجدران العديد من البيوتات التراثية العريقة تعلم منذ صباه أنَّ تمجيد الشرق يتطلَّب العودة إلى الكثير من المصادر كالأيقونات الملكية وفن الخط العربي والمنمنمات الفارسية والأرابسك وبقيت هواجسه الشرقية تُسهم في بلورة عقليته الثقافية بعيداً عن الصراعات العبثية التي يحملها الشرق تغلَّب بفضل وعيه المبكِّر على مشاعره حينها نجح خياله في أن يتطلع إلى حداثة فنية تلتهم الفن التجريدي وتعيد لقدرته إحياء لوحات مذهلة تنجز بيديه.
في مراحل سيرته نقرأ بأنها تعززت في دراسة الحقوق ضمن جامعة القديس يوسف اليسوعية في بيروت في العام 1966 لتجعل منه أكثر وعياً وتفكيراً بعد أن حصل قبل تلك السنة على شهادة البكلوريا في فرع الفلسفة وسبق له أن تدرب على تجارة التحف الشامية والمغربية في محال طرزي في مدينتي الرباط وبيروت كما كان مسؤولاً عن الألوان في مشغل طرزي للخشبيات الشامية بما في ذلك الأرابسك والرسوم النباتية النافرة. بالإضافة لكل هذه الحقول عرفناه مولعاً بالأدب الفرنسي الحديث ومشكلات العصر والرواية التجريدية غير التقليدية التي ألهمت روايته باللغة الفرنسية “معصرة الزيتون” الصادرة في 1996 في باريس إلا أن الظروف وفقته لتحقيق نظرته للحداثة في الفن المعاصر من باب الصدفة بدل تحقيق نفسه في كتابة الأدب والروايات. كل من درس حياة وفن هذا الفنان سيقول إنه يؤمن بضرورة كسر التقاليد في الفن ليتجاوز تكرار الأساليب القديمة مع احتفاظه بالانتماء العربي بعيداً عن المداهنة والمساومة والتسويق التجاري للفن مما جعله فناناً صوفياً من طراز خالص وإذا ما أردنا الحديث عن أعمال جبران طرزي الفنية والأسس الجمالية والفكرية لها فما علينا إلا أن نستحضر خصوصيته النابعة من أفكاره المشرقية وثقافته العربية الخالصة وما أن نشير لقناعة تلك التجربة أسلوبياً إلا ونجد التراث العربي أكثر رسوخاً وحضوراً فيها وهكذا سيأخذنا فنه إلى مساحات واسعة من التأمل والانتباه إلى مجمل ما أنجزه هذا الفنان العريق من تجربة بقيت راسخة في أذهان الكثيرين ممن ينتمون إلى فن مشرقي له تصوراته وأبعاده وآليات اشتغاله المكونة من عناصر وأشكال أقرب للتجريد في بعدها الأسلوبي فما الذي تأسس على يد هذا الفنان ليكون في موضع اهتمام النقاد ولماذا نعود لاسمه بعد غياب كل هذه السنوات ؟ لعل الملفت في منجزه بأن التنوع في الشكل الهندسي لم يكن بتلقائية وبساطة إنما كان عن دراية في استخدام التقنيات وتمثيلها بصرياً والابتعاد عن الانفعال والوجدانية في ترسيخ خطاب العمل ليكون وفق طريقة تمتاز بنمط أسلوبي واختزال الأشكال والتأكيد على إنتاج رسم يمثل هوية تمثله تنتمي لأبعاد روحية مشرقية وهذا الإدراك في المدلول ولّد أمام الفنان التركيز المتواصل على إنتاج حقيقة فن لا يفسَّر بعيداً عن المحسوسات الروحية وإدراك رؤية جمالية جرَّاء البعد التكويني وسنرى ذلك من خلال الأعمال المصاحبة لهذا المقال
*****
انصب جل اهتمام جبران طرزي في اشتغالاته على التركيز في التحول الشكلي بما يوضح أن التكوين الفني سينتج أشكالاً مختلفة مبنية على أسس جمالية تنطلق من بُعْدِها الشكلي الهندسي وتنظيمه وهو ما نراه يعزز من عمل لوحاته سواء تم تقسيمها إلى مربعات أو مستطيلات أو تكوين مستو ،تظهر هذه الحركة الهندسية بطريقة تحقق التباين اللوني وتحدد للمتلقي فسحة من إدراك هيأة الاستعارة المبنية وفق النظام المشكِّل للوحة وهو اعتماد بنائي يهدف للمغايرة وانتظام مساحة العمل وافتعال الحركة من انتقال إلى آخر على أساس التجلِّي والإزاحة في الوحدات الشكلية لتتباين القيمة الجمالية في نهاية المطاف مما يجعل العمل يتجاوز أي تحول أو إشارة مكوناً اعتماداً بصرياً ضمن أفق وإطار مترابط له علاقة بتنوع وتكرار طريقة ملفتة للعيان( وهو ما اعتمده في وحدات مستطيلة ومربع محوط ) وقد نجد أكثر لوحاته وقد احتلها كياني عضوي متكامل وسيطر على وحداتها وعناصرها لينتج تكويناً بصرياً متناسقاً ضمن ما يسميه (بالقائم .النائم ) والذي يقصد بالقائم المستطيل العمودي بينما النائم المستطيل الممدد الأفقي ليترابط الاثنان حول المربع المحوط وتشكل الوحدة الأساسية للتركيب التقليدي وهكذا سيتحقق تمثيل بصري علينا التعامل مع ترتيب عناصره ووحداته بحذر وتأمل لأن الوصول إلى مضامين العمل الفني لا يعتمد الوصف دون تتبع المتخيل من الاستعارة الشكلية التي تلمَّسناها في محاكاة العمل الظاهر أمامنا
****
كل من خبر أعمال جبران طرزي سيجد أن قانون بناء الشكل في لوحاته جعل من منظومة العمل متحررة من أية شوائب في مستويات التكوين فقد نجد أشكالاً هندسية مختزلة وأخرى تقترب من التجريد ذات الطابع المليء بالدلالات القريبة من الفنون الاإسلامية والملفت أننا نرى طابعاً تلقائياً تعبيرياً نظم وفق قانون منطقي له معالجات بنائية واعتماد أسلوبي خاص( مثلما يحدث في مستطيلين متقابلين واستبدال مستطيلين بمربع محوط بمربعين )يظهر للمتلقي بصورة تقليدية كأنه في مزاوجته بين العمل التقليدي ورؤيته للفعل الحداثي يعير منجزه سياقاً يتسم بالتصورات المثالية التي تجعله قريباً من أسلافه الشرقيين ويبقى ما يستوعبه من التراث بكل تنوعاته وعطائه لا يمثل إلا بعداً روحياً متسماً بالفنية والبنائية العالية لارتباطه بالأرض والهوية والمهم مع هذا الجانب التعبيري هناك التآلف والانسجام الحامل لوظيفته المستقلة وإذا أردنا أن نبين ذلك فسنشير لنظام بنائي موسع في العمل تصبح فيه الأشكال الهندسية مصمَّمة بطراز متوازن يشير إلى قواعد من الممكن إدراجها تحت مفاهيم مبدأ الجمالية ووحدة العناصر الموظفة وما يتحقق جرَّاءها من الأشكال الهندسية لنقل بصراحة ما يميز أعماله أنها تأتي بتدفُّقٍ شكلي وحجم مستقل محدد تنحصر في التكوين وهذا يجعلها تتوافق بين الرؤية الجمالية وخطاب البعد التعبيري وهنا يتحقق موضع معاينة للمتلقي يكون فيها الدال والمدلول في تفعيل ثابت وهو جزء من الاهتمام والخبرة مع ما يريد استلامه هذا الفنان من تكويناته الهندسية نتحدث هنا عن هذا التحقق الشكلي في التكوين بناء على اعتقادنا بأن الفنان عمل كل ذلك باستلام مكونات الأثر الإسلامي ذات الطابع الهندسي من خلال استعارة الأشكال مع اتضاح قدرة فكرية وإيحائية شكَّلتها مجمل بحوثه وتجاربه في هذا الضرب من الفن التجريدي
*****
انطلقت مكونات عمل جبران طرزي وفقاً لعلاقات شكلية تتكون في صياغتها من مركبات منظمة لأشكال مربعة أو مستطيلة أو مثلثات ويعد تنظيمها مبنياً على انجذاب بصري يثيره التنوع الاستعاري وهذا ما يظهره التجريب والتثاقف لدى هذا الفنان فعمله لا يقوم على مظاهر الخداع البصري إنما يمثل حقيقة اشتغال تجريدي هندسي محسوب رياضياً من حيث القياسات والتماسك وتحقيق التكرار اللوني والشكلي معاً وسيكون لزاماً هنا أن نعي أنَّ مثل هكذا اشتغال بصري إنما غايته تحقيق الجمال وترك انطباع بأن ما يقوم به الفنان مرده في النهاية إنجاز فن شرقي مثلما رأيناه في سلسلة تراكيبه المتعددة التي قدمها في معرضه الأول والموسوم ب(36 رؤية للمربع ) في غاليري لامارتور والتي عرض فيها 45 عملاً فنياً تجريدياً ثم لحقه بمعرض آخر (البحر المربع ) أسهم في 29 عملاً تجريدياً في تسعينيات القرن المنصرم في بيروت تلك المساهمات وفرت لنا كمتذوقين لفنه أن نشاهد صنع يديه ومهارة عقله وخياله بأن مفهوم الشكل الهندسي يتضمن بُعْدَين (روحياً ومعنوياً) فمن البديهي أن تكون تخيُّلاته بمثابة طريق مرتبط بقيم الشرق التي تربَّى عليها جبران طرزي