إيزابيل الليندي: كُتُبِي المحظورةُ كانتْ تُهرَّبُ بلا أغلفةٍ للوطن (2-1)

ثقافة 2023/10/04
...

 ترجمة: نجاح الجبيلي
 حاورتها: ستيفانيا تالادريد

بعد خمسين عاما من الإطاحة بسلفادور الليندي، تتحدث الروائيَّة عن انقلاب تشيلي والتهديدات التي تتعرّض لها الديمقراطية في أمريكا اليوم.
تتذكر إيزابيل الليندي ذلك اليوم الذي عمَّ الصمت في سانتياغو. في صباح يوم 11 سبتمبر (أيلول) 1973، لجأ سلفادور أليندي إلى قصر الرئاسة «لا مونيدا»، بعد أن عَلِمَ بوقوع انقلاب عسكري. حاصرت الدبابات القصر، وهو مبنى بنمط كلاسيكي يعود تاريخه إلى أوائل القرن الثامن عشر، ودعت قوات الانقلاب الرئيس الليندي إلى الاستقالة. فرفض ذلك وتعهد بالدفاع عن الدستور، وأعلن في خطاب إذاعي أنه لن يتنحى: «لا يمكن إيقاف العمليات الاجتماعية لا بالجريمة ولا بالقوة». وقبل دقائق من حلول الظهر، قصفت طائرات عسكرية قصر «لا مونيدا»، مما أدى إلى اشتعال النيران في قسمه الشمالي وغطت سحب الدخان بقية المبنى. وحينَ اقتحمت القوات في وقت لاحق القصر، عثرت على جثة الرئيس في إحدى القاعات الرئيسة بالقصر، ويده ممدودة قرب بندقية. بحلول نهاية اليوم، كان أوغستو بينوشيت قد استولى على السلطة، إيذانا ببداية حكمه الذي دام سبعة عشر عاماً. كتبت إيزابيل الليندي بعد عقود من ذلك: «في يوم الثلاثاء البعيد من عام 1973، انقسمت حياتي إلى قسمين. لم تعد الأمور كما كانت: لقد فقدت وطني».
كان سلفادور الليندي ابن عم والدها. لقد آمنت برؤيته في تحويل تشيلي إلى مجتمع أكثر حرية وعدالة، من خلال «طريق تشيلينا»، أو المسار التشيلي نحو الاشتراكية، لكنّها كانت قلقة بشأن ما إذا كان مشروعه سينجح، في عالم تمزقه الأيديولوجيات المتصارعة. لم يكن كره المحافظين للرئيس الليندي مخفيًا، ولم تكن معارضة البيت الأبيض له كذلك. إذ حاولت وكالة المخابرات المركزيَّة، التي ساندت أولئك الذين عزلوه، منعه من تولّي السلطة. ولكن، مثل كثيرين آخرين، نفت إيزابيل الليندي الشائعات التي تزعم أن حكمه قد يكون في موضع شك، أو أن الديمقراطية قد تكون في حالة خطر. كتبت الليندي لاحقًا: «كنا فخورين بكوننا مختلفين عن بلدان القارة الأخرى، التي كنا نسميها بازدراء «جمهوريات الموز» وأعلنا: كلا، هذا لن يحدث لنا أبدًا».
بعد تسلّم بينوشيت للسلطة، تخلت الليندي عن عملها كمذيعة تلفزيونية وكاتبة عمود ساخر. كتبت: «ليس هناك ما يدعو للسخرية، عدا أولئك الذين كانوا يحكمون، الأمر الذي سيكلفك حياتك». وفي غياب الصحافة الحرة، انتشرت الأنباء شفهيًّا: تعرّضَ آلاف الأشخاص للتعذيب أو تُركوا ليموتوا في أماكن الاعتقال. إنَّ عدد الضحايا المسجونين أو المختفين أو الذين قتلوا على يد الدولة تجاوز في النهاية أربعين ألفًا. ولكن ساد شعور بالإنكار بين أولئك الذين لم يستطيعوا تحمل الحقيقة وأولئك الذين لم يتعاطفوا مع «طريق تشيلينا». كتبت الليندي: «لقد تعلم التشيليون ألّا يتكلموا، أو يسمعوا، أو يروا. حين أحسستُ بالقمع يشدُّ مثل حبل المشنقة حول رقبتي، غادرتُ».
غادرت الليندي العاصمة سانتياغو في صباح شتوي ممطر من عام 1975 متوجهة إلى كاراكاس، عاصمة فنزويلا، حاملة حفنة من تراب الوطن؛ وانضمَّ إليها زوجها وطفلاها بعد شهر. خطَت الليندي خطواتها الأولى كروائيَّة برسالة إلى جدها المريض، كتبتها من مكتب مؤقت من خزانة ملابسها. قالت الليندي في وقت لاحق: «أردتُ أن أخبره أنني أتذكر كل شيء». تطورتْ الرسالة إلى مخطوطة مكوّنة من خمسمئة صفحة، مما دعا المحررين في أمريكا اللاتينية إلى رفض نشرها. ولكن في عام 1982، قامت دار النشر بلازا آند جانيس في برشلونة بطباعة ثلاثمئة وثمانين صفحة من الرواية، تحت عنوان «La Casa de Los Espíritus” أو “بيت الأرواح”.
حققت رواية بيت الأرواح نجاحاً عالميًّا مما ساعدَ الليندي في العثور على صوت يمكن أن يرتبط به الآخرون الذين يعيشون في المنفى. كتبت الليندي في وقت لاحق: “لم تكن تشيلي حالة معزولة. في عام 1975، كان نصف مواطني أمريكا اللاتينية يعيشون في ظل حكومات قمعيَّة، كان معظمها مدعومًا من الولايات المتحدة”، أصبحت الليندي غزيرة الإنتاج على نحو استثنائي، إذ نشرت ستة وعشرين كتابًا، بيعت منها أكثر من سبعة وسبعين مليون نسخة، لكنها لم تتخلَ أبدًا عن قضية النزوح. لقد أعادت النظر فيها مرارًا باعتبارها هاجسًا، وشكلًا من أشكال التنفيس، وموضوعًا للدراسة. كان لديها أيضاً خسائر أخرى يجب عليها مواجهتها. من بين أعمال الليندي التي لا تنسى هي رواية “باولا”، وهي مرثاة لابنتها الراحلة، التي توفيت عن عمر يناهز التاسعة والعشرين، بعد إصابتها بالبورفيريا، وهو مرض وراثي نادر.
 نشرت الليندي مؤخراً رواية “الريح تعرف اسمي” وهي الآن في الحادية والثمانين من عمرها. يغطي الكتاب حقبتين تاريخيتين، ويسترشد ببطلين رئيسيين: صامويل أدلر، وهو رجل يهودي ولد في النمسا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأنيتا دياث، وهي طفلة من السلفادور انفصلت عن والدتها، نتيجة سياسة الحكومة الأمريكية المسمّاة “عدم التسامح المطلق”. وتقارن المؤلفة بين وحشية النازية والعنف الذي تشهده أمريكا الوسطى، حيث نزح أكثر من مليون شخص من منازلهم. توضح الليندي بأن الانفصال العائلي يتكرر عبر الزمن كوسيلة للعقاب ومصدر للحزن.
قبل أيام من الذكرى الخمسين للانقلاب في تشيلي، حاورتُ الليندي عن إرث المنفى في رواية “الريح تعرف اسمي”، وحالة الديمقراطية الأميركية:

* سأكون مقصرة إذا لم أذكر تأريخًا مهمًا في حياتك: الذكرى الخمسون لانقلاب بينوشيت في تشيلي - وهو اليوم الذي أثر على حياتك ومسيرتك المهنية ككاتبة في المنفى. ما هي الذكريات التي تحملينها عن ذلك اليوم؟
- كان أحد أيام شهر سبتمبر (أيلول)، بداية فصل الربيع بالنسبة لنا. وأتذكر أن الأمر كان محيّراً جداً. استيقظتُ في الصباح الباكر، وذهب أطفالي إلى المدرسة، ثمَّ توجهتُ بالسيارة إلى مكتبي. رأيتُ الشوارع فارغة، وبعض الناس تقطّعت بهم السبل في انتظار الحافلات التي لم تصل أبدًا، وكانت هناك بعض الشاحنات العسكرية تسير ذهابًا وإيابًا. لكن لم تكن لدينا خبرة في الانقلابات العسكريَّة. أعتقد أن معظم الناس لا يعرفون ما يدور أو يحدث.
وصلتُ إلى المكتب، فقال لي البواب: “إنّه انقلاب عسكري، عودي إلى المنزل، كل شيء مغلق”. لذلك، حاولتُ الوصول إلى منزل أحد الأصدقاء، الذي كان لديه هاتف، للاتصال بأهل زوجي وأطلب منهم اصطحاب أطفالي من المدرسة. كان زوج صديقتي مدرسًا للغة الفرنسية، وكان يذهب إلى المدرسة فجرًا لتصحيح بعض الاختبارات، ولم تسمع منه شيئًا. كانت قلقة بشكل لا يصدق. فقلت: “سأذهب وآخذه”. وكانت المدرسة في وسط مدينة سانتياغو، بالقرب من قصر لا مونيدا. عندما وصلت هناك، التقيت بزوج صديقتي، وسمعت كلمات الليندي الأخيرة عبر الراديو. ثم شاهدنا قصف القصر الرئاسي. رأينا النيران والدخان والطائرات والضوضاء. لم نصدّق ما كان يحدث. هل يمكنك أن تتخيلي؟ سيكون الأمر أشبه بقصف الجيش الأمريكي للبيت الأبيض، ومن المستحيل تخيله. ثم فرضوا ثلاثة أيام من حظر التجول. لم نتمكن من الخروج على الإطلاق. كان كل شيء خاضعًا للرقابة، ولم يكن هناك راديو ولا تلفزيون. لذلك، مرّت علينا أوقاتًا غريبة جدًّا امتلأت بالشكوك والمخاوف.

* بعد نحو عام ونصف، انتقلتِ إلى فنزويلا، حيث عشتِ لمدة ثلاثة عشر عامًا. ثم تزوّجتِ بأحد سكان كاليفورنيا وتبعتِه إلى منطقة خليج سان فرانسيسكو، حيث عشتما منذ ما يقرب من أربعة عقود. بالمقارنة مع سنوات طفولتك، تبدو هذه فترة مستقرة جدًّا في حياتك. ومع ذلك فقد وصفتِ الشعور بأنّك أجنبيَّة دائمة، حتى في تشيلي. فمن أين نبعَ ذلك الشعور؟.
ربما نشأ منذ الطفولة. لقد ولدتُ في البيرو، لكن والدي تخلى عن والدتي عندما كنتُ في الثالثة من عمري، لذلك عُدنا إلى تشيلي، حيث تسكن والدتي، لنعيش في منزل أجدادي. ثمّ تزوجتْ والدتي من دبلوماسي ورحلنا. كل عامين، كنا نقول وداعًا للأشخاص والأماكن والمدارس واللغات، وننتقل إلى مكان آخر. ثمَّ أصبحتُ لاجئة سياسية ثم مهاجرة. لذلك، كان في حياتي دائمًا هذا الشعور بالنزوح، وهو أمر ليس سيئًا بالنسبة للكاتب. إنها في الواقع فترة رائعة. لأنه عليك أن تنتبهي. عليكِ أن تستمعي، وأن تراقبي بعناية، وأن تفهمي مفاتيح ورموز المكان الجديد. ربما لأنني لا أشعر بأنني أنتمي تمامًا إلى مكان ما، فأنا دائمًا أثير أسئلة يعدّها الآخرون أمرًا مفروغًا منه. ومن خلال الإجابات عن تلك الأسئلة، أحصل على القصص.

* أردتِ أن تعتقدي أن الدكتاتورية لن تدوم، كما صدّق العديد من التشيليين الآخرين. وفي عام 1988، وهو العام الذي أنهى فيه الاستفتاء حكم بينوشيت، زرتِ البلاد، ولكنك لم تعودي إليها أبدًا. لماذا؟
لأنَّه بحلول الوقت الذي كانت لدينا فيه الديمقراطية في تشيلي، كنت متزوجة من أميركي. كنتُ أحاول أن أدعو أطفالي وحفيدي للقدوم إلى الولايات المتحدة أيضًا. لم أكن أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب للعودة. كان والداي على قيد الحياة، لقد عاشا حتى بلغا من العمر عتيا. لذلك، كنت أذهبُ إلى الوطن كثيرًا لرؤية والديَّ، لكن تشيلي أصبحت تقريبًا بعد فترة مثل دولة أجنبية تقريبًا بالنسبة
لي.

* حينَ تنظرين إلى تشيلي اليوم، كيف يتجلّى إرث الانقلاب لكِ؟
 - يعرف الجميع ما حدث خلال الديكتاتورية والفظائع التي أُرتكبت. وقد جرى نشر كل ذلك على نطاق واسع. ما زال بعض الناس يبررون ذلك، فهناك نسبة من السكان تقول: “حسنًا، لولا ذلك، لكان لدينا دكتاتورية شيوعية”، وهو الأمر الذي لم يكن كذلك على الإطلاق. لكن هذا كان ذريعة الانقلاب. البلد مستقطب ومنقسم جداً. لدينا حكومة يساريَّة مع رئيس شاب لا يحظى بشعبيَّة. المشكلات التي يشتكي منها الناس أكثر من غيرها هي: الهجرة، والجريمة وبالأخص الجريمة الحضريَّة، والتي إذا قارنتها بأي مدينة أخرى في أمريكا اللاتينية أو الولايات المتحدة، فهي لا شيء. هناك تفاوت كبير في الثروة والفرص. ولكننا نتفق جميعًا على أنّه يتعيّن علينا الحفاظ على الديمقراطية. لذا، لا أعتقد أنّه سيكون من الممكن حدوث انقلاب آخر في تشيلي اليوم.

* لقد وصفتِ فعل الكتابة بأنّه  تمرين مستمر في التوق. ماذا تتوقين هذه الأيام؟، وهل يختلف عما كنت تتوقين إليه في بداية الثمانينات عندما صدرت رواية “بيت الأرواح”؟.
- حين بدأتُ الكتابة، كنتُ أتوق إلى كل ما فقدته: جدّي الذي أحببته، عائلتي، أهل زوجي، عملي، وطني، أصدقائي، كل ما كان مألوفًا وعزيزًا عليَّ، وكل ما فقدته حين غادرتُ تشيلي. وأعتقد أن كتابة رواية “بيت الأرواح” كانت محاولة مجنونة لاستعادة كل ذلك، ووضعه في مكان لا يضيع فيه. ولأنّني لم أثق بذاكرتي، كنت أنسى الكثير، وأردتُ الحفاظ على كل ذلك.حينَ أكتبُ الآن، لا أشعر بأنّني بحاجة إلى استعادة كل ما فقدته، لكنني أشير دائمًا إلى الماضي، وإلى ذاكرتي، وإلى الأشخاص الذين عرفتهم طوال حياتي. هناك أيضًا توق إلى عالم أستطيع أن أفهمه، وأتمكن من التعامل معه. أعتقد أن كل كاتب لديه هذا الشعور – نحن نكتب لنحاول أن نفهم.

* تمسكتِ بعدد من عادات الكتابة على مرِّ السنين، بما في ذلك البدء بتأليف كتبك في الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي بدأتِ فيه كتابة الرسالة إلى جدّك المريض، والتي تحولت بعد ذلك إلى روايتك الأولى.
- أنا منضبطة. يعتقد الناس أن الأمر خرافة، لكنّي اعدّها انضباطًا. سأبدأ الكتابة في الثامن من يناير (كانون الثاني) مهما حدث. يمكنني أن أكون في منتصف جولة كتاب. يمكنني أن أكون في تشيلي لأنَّ والديّ مريضان. ومهما كان الأمر، فإنَّ ذلك اليوم هو يوم مقدس للبدء بالكتابة. ثم أتواجد أمام جهاز الكومبيوتر الخاص بي، عادة، ستة أيام في الأسبوع، ولكن دعينا نقول خمسة. لقد كان ذلك لعدة ساعات عديدة.  الآن لا أستطيع أن أفعل ذلك لفترة طويلة لأنّ عمري واحد وثمانون عامًا. لكنني أفعل ذلك كل يوم تقريبًا. في كثير من الأحيان، في الثامن من يناير، لا أعرف ماذا سأكتب، تستبد بي فكرة غامضة عن الزمان والمكان، وبالأخص إذا كانت رواية تاريخية. ثم تبدأ العملية عضويًا. في البداية، حين ألّفتُ كتبي الأولى، شعرتُ بالخوف، وأحسستُ بأن كل كتاب كان بمثابة هدية وربما لن يحدث ذلك في المرة المقبلة. أعلم الآن أنّه إذا أُعطيت الوقت الكافي، فسوف أكون قادرة على كتابتها. لكنّي أرغب أن أشعر بالحرية في ترك الكتاب يتكلم عن نفسه، وأن أدع الشخصيات تنبض بالحياة، وتروي لي القصة. إذا حاولت السيطرة عليها، فإنَّ العمل لن ينجح أبدًا. وهذه العملية مثل ممارسة الحب. لن ينجح العمل إذا حاولتِ السيطرة عليه أكثر من اللازم.
[تضحك].

* قرأتُ أنّكِ تستدعين أيضًا أرواح الأشخاص الذين تحبينهم.
[تضحك]، أحاول أن أفعل ذلك كل صباح. أستيقظ في وقت مبكر جدًّا، حين يكون الظلام دامسًا، نحو الساعة الخامسة صباحًا. لا أحب أن أسميه تأملًا، لأنّه يبدو رائعًا جدًّا. [تضحك]، وأنا لست امرأة تحبُّ المعتقدات الخرافيَّة. لكنها على الأقل نصف ساعة من الشعور بالامتنان، والشعور بالكتاب الذي أكتبه. وأبدأ يومي أيضًا بالدعاء للأشخاص الذين أحبهم والذين لم يعودوا معي: ابنتي، وجدّي، ووالديّ.

* هل تخافين يومًا من الصفحة الفارغة؟
- لا، لقد أصبتُ بحصار الكتابة بعد وفاة ابنتي. وتعلّمتُ أنه إذا لم أتمكن من الكتابة، فيمكنني العودة إلى تدريبي كصحفيَّة وكتابة القصص الواقعيَّة. إذا أُعطيتُ ما يكفي من الوقت للبحث، فيمكنني أن أكتب عن أي شيء تقريبًا.