أوهامٌ وأغلاطٌ واجبة التصويب (2-1)

ثقافة 2023/10/04
...

  د. نادية هناوي  

صعد نجم الدكتور جابر عصفور في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد ما أنجزه من عطاء ثقافي وترجمي، وما حظي به من فرص بحث وابتعاث وعمل في جامعات غربية وعربية وما تولاه من مناصب ذات أهمية، تبدأ من قسم اللغة العربيّة بجامعة القاهرة وتنتهي بتوليه منصب وزير الثقافة المصرية لمرّتين متتاليتين. وما بين الرئاسة والوزارة مهام كثيرة منها الإشراف على تحرير مجلة فصول وإدارة المجلسين القومي للترجمة والأعلى للثقافة وعضوية لجان استشارية لجوائز ومؤتمرات وجمعيات أدبيّة أو لغوية مختلفة. وعلى الرغم من هذه المشاغل الثقافيّة وما تتطلبه من التزامات ومسؤوليات إدارية واعتبارية، فإن عطاءه استمرَّ في نقد الشعر والترجمة والدراسات الثقافيَّة التي مال إليها في سنواته الأخيرة، فبحث في التنوير والعقل والهوية والتراث والمرأة، وبسبب ذلك لقبه بعضهم بحارس التنوير.
ومما عُرِفَ به الدكتور عصفور أيضًا حرصه على إعادة تحرير كتبه السابقة التي صدرت في عقود ماضية بعد أن يضيف إليها أو يحذف منها أو يعدلها بقصد تجديدها وإغنائها. وكان من تبعات هذه الإعادة أنّها تسببت في تكرار بعض موضوعات كتبه، وكان يعترف بذلك ويقدم اعتذاره للقرّاء كما حصل في كتابه (تحولات شعريّة) 2016 وهو إعادة صياغة لكتاب سابق له عنوانه (ذاكرة الشعر) ولكن بعض موضوعاته اختلطت بموضوعات كتاب آخر صدر في العام نفسه عنوانه (رؤيا حكيم محزون).    
ولا نقول إنَّ لهذا التكرار والخلط علاقة بتقدم العمر، إنّما هو تزايد المسؤوليات جنبًا إلى جنب توفر الرغبة القوية في مواصلة العطاء النقدي، مما يجعل أمر الوقوع في مثل هذا الإشكال متوقعًا وطبيعيًّا. ولقد أدرك الناقد عصفور ذلك، فسعى إلى تبريره بمسائل لها صلة بالذاكرة والتذكر أو ما سمّاه عمل (الذاكرة النقديَّة) وأن لها تأثيرًا في الناقد لا سيما إذا كان بمثل الدكتور عصفور من ناحية الشهرة وتنوع الاهتمامات، يترجم من اللغة الانجليزية وذو حياة حافلة بالخبرات وصاحب مسؤوليات كبيرة وله شبكة معقدة من العلاقات مع مثقفين ومفكرين كثيرين عربًا وأجانب.
وصحيح أنَّ الناقد عصفور لم يفرد لسيرته الذاتية كتابًا مستقلًا، لكنّه ومن خلال اهتمامه بالذاكرة النقديَّة ضمّن كثيرًا من سيرته في تضاعيف بعض كتبه، ومنها كتاب (تحولات شعريّة) وفيه بثَّ كثيرًا من ذكرياته مع الشعراء والقصائد، كأن يسرد موقفًا فيه يسترجع ذكرى أو يستحضر مشهدًا عايشه وهو بأزاء تحليل نص شعري وأحيانًا تتداعى الذكريات وهو يتتبع الظواهر أو يؤشر على واقعة جمعته مع شاعر من الشعراء، والسؤال الجوهري هنا: هل يستطيع الناقد المحافظة على شروط الوظيفة النقديَّة وهو يؤدي دور السارد الذاتي؟.
من المفروغ منه نقديًّا أن الموضوعية والمنهجية شرطان مهمان في أداء الناقد لوظيفته الجماليَّة، بينما لا يشترط ذلك في عمل السارد أيًّا كان سرده الذاتي تسجيلًا يوميًّا أو اعترافًا أو تذكّرًا أو سيرًا ذاتيّة أو غيريّة. ولكن إذا حصل ووجد الناقد نفسه ملزمًا ــ وهو يحلل نصًّا أو يستعرض سيرة أديب من الأدباء ــ باسترجاع حادثة أو سرد مشهد أو تسجيل لحظة فيها له ذكرى أو موقف، فإنّه حينئذ يكون ساردًا أي أن مهمته كناقد تتوقف فيأخذ جزء آخر بداخله يتكلم، هو هذا السارد الذاتي. ولا مجال لتمازج عمل الناقد بعمل السارد؛ فالكتابة النقديَّة فعل موضوعي فيه يجتمع العلم بالفن بينما الكتابة السرديَّة فعل تخييل ذاتي، فيه الذاكرة هي الموئل والمرجع وهي بالعموم غير محصّنة من النسيان الذي تتداركه بالتخييل.
إنَّ هذه الإشكالية في اجتماع الوظيفتين الكتابيتين داخل كيان الناقد، تصادفنا جلية في كتاب (تحولات شعريَّة) بسبب ما أودعه الناقد فيه من ذكريات، وثّق من خلالها محطات من حياته وهو أزاء قصيدة من القصائد أو بصدد تجربة شاعر من الشعراء. ولم يَرَ في ذلك أية إشكالية لوجود (الذاكرة النقديّة) وهي بحسب وصفه (ليست مجرد وعاء للحفظ .. وإنما هي فعل تشكيل وقدرة خلاقة وإنشاء متصل لا تنجذب إلّا إلى ما ترى فيه دلالة خاصة تلمحها.. ولا تتسم بالحياد أزاء ما تنطوي عليه بل تعيد تكوينه بالحذف أو الإضافة، التكبير أو التصغير، التأكيد أو التهوين وبالجملة إدخال كل معطى من معطياتها المخزونة في شبكة جديدة من العلاقات التي تتجاوب في توليد الدلالات الطازجة في تنوعها الخلاق)، وبذلك تحرر الذاكرة النقديّة صاحبها من الحياد والموضوعيّة فيمزج الفعلين السردي والنقدي/ العقلاني والحدسي، منتجا (الخيال الابتكاري) وتتحقق (الموضوعيّة النسبيّة) على حدِّ وصف الدكتور عصفور، ومثّل على ذلك برولان بارت وعبد الفتاح كيليطو، لكن ما هي طبيعة هذا الابتكار في تجسيد الموضوعيّة النسبيّة؟، وهل نجد لهذه النسبيّة معيارا كي نستدل من خلالها على أن الناقد لم يخالف شرط النقد وهو يسوح في عالم السرد؟.
إنَّ السرد السيري بطبيعة الحال تتحكم فيه الذاكرة الفرديَّة بينما تتحكم المرجعيات الاصطلاحية والمنهجية في التحليل النقدي. وما دامت الذاكرة الفرديّة تعمل بحرية كانفعالات وتداعيات واسترجاعات وتعاطفات وتحاملات، وليست لها موجهات مرجعيّة متخصصة، تكون ذاكرة الناقد مختلفة عن ذاكرة من هو ليس كذلك أيًّا كان أديبًا أو غير أديب. بيد أن الدكتور عصفور افترض العكس وهو أن ذاكرة الناقد كذاكرة الشاعر ومن الممكن له الاستعانة بالسرد في إعادة إنشاء ما هو تقليدي في نقد الشعر والشعراء. وبناءً على ما تقدم لن تكون هناك حاجة إلى المنهجية كما لن يكون واجبًا على الناقد اتخاذ موقف حيادي، بل له أن يتعصّب أو يتحامل استنادًا إلى مخزونات ذاكرته من الصور والمواقف التي يستحضرها تداعيًا أو يسقطها على النصّ إسقاطًا بشكل واع أو لا واع!!.  
وبهذا يكون البون كبيرًا بين ما تعنيه مفردة (تحولات) من دلالة فنيّة في العتبة العنوانيّة، وبين ما تسترجعه الذاكرة في متن الكتاب من انفعالات وتداعيات، بها يعاد نقد الشعر والشعراء بالإضافة أو الحذف أو التكرار. وبغض النظر عن هذا البون في اعتبار فعل الإعادة تحولا و (تحولات)، يغدو كتاب (تحولات شعريّة) حافلا بالانطباعات التي تأتي متلازمة مع الاستذكارات في نقد (الشعر الإحيائي/ ولادة ابولو/ علي محمود طه/ محمود حسن إسماعيل/ الشابي/ السياب) كما تخلل السرد السيري في قراءة نصوص شعراء مصر (صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وقصيدة يتيمة لعبد الرحمن شرقاوي) وفلسطين (محمود درويش) وسوريا (نزار قباني وادونيس) والعراق (البياتي وسعدي يوسف).
ومن ثمَّ جمع السارد عصفور هذا الكم من الشعراء الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة وتتغاير أدوارهم في صنع الـ (تحولات) داخل الشعر العربي، معتمدًا على ذاكرته في الإتيان بما هو جديد وغير معتاد، فتداعى ما بداخلها مع نقد الشعراء وقصائدهم لا سيما الذين وصفوا بالستينيين كأحمد حجازي ومحمود درويش. وكانت محصلة الاعتماد على الذاكرة الفرديّة ايجابيّة بالعموم في سرد الذكريات بالإضافة أو التركيز أو التكبير ولكنّها كانت في أحيان قليلة سلبيَّة بالحذف والتصغير
والتهوين.
ولعلَّ أكثر الشعراء تعرضًا لهذه السلبيّة هي الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة التي ــ  على خلاف الشعراء المذكورين في الكتاب ــ لم يتناول السارد عصفور شعرها، ولم يورد لها قصيدة سوى نص قصير مقتطع من قصيدة (شجرة القمر) فضلا عن قلة المساحة التي خصصها لنقد حياتها قياسا بالمساحات التي خصصها للشعراء الآخرين وكلهم رجال.
ولن نؤاخذ الدكتور جابر عصفور على تغاضيه عن ذكر التحول الكبير الذي جاءت به حركة الشعر الحر، لكننا نؤاخذه على مسائل فيها تغلغل التخييل السردي في عمل الذاكرة الفردية، مما أوقع الناقد في هفوات، ألحقت حيفا بالشاعرة الكبيرة. وهذا الحيف بمثابة ظاهرة عامة واجهتها في حياتها واستمرت بعد رحيلها وأعني تصادي النقاد معها ومناصبتهم لها العداء بعكس زملائها رواد الشعر الحر الذين لم تشب حداثتهم شائبة، ربما لأنهم رجال وربما لأنهم لم يكونوا قاصدين التحديث قصدًا ولا وضعوا فيه أطروحة كتلك التي وضعتها نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) بعد أن عملت عليها لأكثر من عشر سنوات. ويعد الناقد المصري محمد النويهي في مقدمة أولئك الذين حاولوا سحب الريادة منها شعريًّا ونقديًّا، فألف كتابه (قضية الشعر الجديد) 1964، مبتغيًا إحلال مقولة الشعر الجديد محل مقولة الشعر
الحر.
ولسنا بصدد ظاهرة التصادي إنما بصدد الناقد الذي يتخذ من الذاكرة الفردية موئلًا ومرجعًا، فيكون التخييل السردي طاغيًا على نقده الموضوعي. ومثالنا الدكتور جابر عصفور الذي أوقعته ذاكرته في أغلاط وأوهام أضرت لا به هو، بل بالشاعرة الكبيرة أيضًا. وهو ما سنفصل فيه القول في القسم الثاني من هذا
المقال.