ميادة سفر
تعتبر الموسيقى الظاهرة الوحيدة التي تُجمع شعوب العالم على أهميتها، وعلى تأثيرها النفسي والوجداني والروحي على الإنسان، فلا يوجد مجتمع إلا وجدت معه الموسيقى، حتى المجتمعات والقبائل البدائيَّة لديها الكثير من الطقوس والأصوات الموسيقية، ما ينفي عنها توحشها الذي وسمها به آخرون، فالموسيقى والفنون شأنٌ إنسانيٌّ خالص، فكما الإنسان حيوانٌ اجتماعيٌّ ناطق، فهو أيضاً كائنٌ
موسيقي.
رافقت الموسيقى الإنسان منذ وجد على هذه الأرض وبدأ باستخدام الأصوات للتعبير عمّا يريده ويحسه ويستشعر به خطراً عليه وعلى محيطه، يقول جان جاك روسو: "عندما ظهرت الأصوات الأولى تشكلت معها المقاطع اللفظية الأولى أو النغمات الأولى وذلك تبعاً للعاطفة التي تحرك تلك الأصوات والنغمات"، وهكذا نشأت الموسيقى وتطورت مع تطور البشرية وواكبت حالات الإنسان النفسية ونشاطاته وأعماله، فكان للأفراح موسيقاها وللحزن والجنائز ألحانها الخاصة بها، فلكل طقس من الطقوس لحنه وموسيقاه.
تعرضت الموسيقى للرفض والتحريم من بعض السلطات الدينية، فحرم الاستماع إليها أو ممارستها كعمل، ووصل بهم الحد إلى اعتبارها "رجس مع عمل الشيطان" علينا اجتنابه والابتعاد عنه، أو بدعة من بدع الغرب التي يسعى بها لتدمير مجتمعنا وفق زعمهم، إلى غيرها من تهم ألقيت هنا وهناك على هذا الفن، لكنّ تلك الأصوات وإن لم تنجح في إلغاء الموسيقى والفنون والغناء بشكل كامل، إلا أنها ما زالت قادرة حتى اليوم على إقناع البعض بتعارضها مع الدين والعقيدة، وما زلنا نسمع بين الحين والآخر عن فنان اعتزل الغناء لأنه اهتدى اخيراً إلى طريق الصواب حسب إدعائه.
أشارت الدراسات الحديثة إلى أهمية الموسيقى، ووجدت أنّ الموسيقى السعيدة المتفائلة تعمل على زيادة انتاج الدوبامين "هرمون السعادة"، كما أظهرت تأثير الموسيقى الإيجابي على المزاج الشخصي للإنسان، في حين خلص الباحثون إلى أنّ الموسيقى تشكل علاجاً فعالاً للحد من الاكتئاب والقلق والتوتر، وتساعد في تحسين المزاج العام واحترام الذات، وتحدث تغيرات فيزيولوجية لدى الشخص، وتسهم في تحسين قدرته على تحمل التعب، وهذا ما يفسر مرافقة الموسيقى والأغاني لكثير من العمال والموظفين أثناء أعمالهم.
في ضفة أخرى تشكل الموسيقى جزءاً من هوية الشعوب والمجتمعات، فقد كانت وما زالت مرآة الشعوب، ساهمت في تركيب وصياغة الهوية الجمعية، فلكل شعب تراثه الفني والموسيقي والغنائي الذي يميزه عن غيره، وقد تطور هذا التراث وتبلور وفقاً لتغير الحياة وظروفها، والتحولات المختلفة التي طرأت على بيئته الحاضنة سواء الاجتماعية أم السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، فهي لم تكن يوماً أداة للترفيه والفرفشة فقط كما يجري اليوم، ولم تكن بالسخافة والتفاهة التي يروج لها البعض، وإنما هي جزء من هويتنا وانعكاس لشخيصتنا ومعلم مع معالم حضارة الشعوب، وحافظة لأحداث التاريخ وحوادثه، وغالباً ما تعبر خياراتنا الموسيقية عن ثقافتنا وأيديولوجيتنا وانتمائنا الفكري وأحيانا
السياسي.
لطالما كانت الموسيقى تحاكي أحوال الناس والآلهة، وتحكي عن حياتهم وظروفهم منذ آلاف السنين، فقد كشفت الأبحاث في رأس شمرا السورية عام 1948 عن أقدم تدوين موسيقي في العالم، كانت تلك النوتة الموسيقية مكتوبة على لوحات مسمارية تعود للعام 3400 قبل الميلاد، يحكي النشيد عن قصة الإلهة نيكال زوجة إله القمر، التي كانت حزينة بسبب عقمها وعدم قدرتها على الإنجاب، على الرغم من أنّ زوجها هو واهب الذرية للأزواج، وفيه يقول: "إنك تجعلين العاقر خصيبة، والحبوب تعلو
صعوداً".
يمكن للفنون بشكل عام والموسيقى خاصة أن تنقذنا من تردينا النفسي وتخلصنا من القلق والاكتئاب الذي يشكل هالة تحيط بنا، فلن تستريح هذه البلاد إلا حين تقتنع بأنّ الفن ليس حراماً والموسيقى ليست خطيئة والغناء ليس بدعة، والرقص ليس إغواءً، فتسكت أصوات المدافع وتعلي أصوات الفنون.