أنوثة القمر

ثقافة 2023/10/05
...

  ناجح المعموري

ساد في الحضارات القديمة اعتقاد بأنوثة القمر وتمثيله للام الكبرى، فبعيداً عن مسرح الحضارات الكبرى في الهلال الخصيب ومصر والعالم اليوناني، التي تخللت عناصر الأسطورة القمرية الأولى أساطيرها ودياناتهاـ كما قال فراس السواح - معظم الثقافات البدائيَّة تنظر للقمر باعتباره أنثى وتعتقد بتجسيده لإلهة أنثى يسود هذا الاعتقاد معظم الثقافات البدائية في أمريكا الشمالية والجنوبية، ونجده لدى معظم الثقافات الإفريقية واستراليا وذكرت الأساطير الارتميسية أن ظهورها مرتبط بالقمر. ففي اللحظة التي يهل فيها القمر، تظهر أرتميس وترقص لها الوحوش والنباتات.

ويقدم لها الراقصون والراقصات رقصات احتفاء بها خاصة سكان قرية “اركاديا” وعرف الاثينيون أن أصل هذه الإلهة/ الصيادة/ العذراء يعود إلى أزمنة سبقت العهد الإغريقي. 

وكان مكانها في الأماكن الموحشة والحيوانات أقيمت لها الطقوس في الأرياف وتخدمها النساء الدببة “اركتو”.

ذكرت أسطورة أرتميس أنها اختارت بطلب من زيوس أن يعطيها الجبال مكاناً لها، وهي تحاول بذلك أن تتماهى مع زيوس أو إلهة الأولمب الموجودة فوق قمتها واختيار الجبال مكاناً ومستقراً ينطوي على رغبة للتعالي، كي تشرق أكثر بجمالها ورشاقتها وتتمكن من معاينة غاباتها وبراريها وبحيراتها، كذلك تكون قريبة من القمر المقترنة به رمزاً معبراً عن أمومتها وعلاقتهما معاً من أجل تجديد الحياة والكون، وتفعيل الخصوبة بالحياة ذكرت الميثولوجيا الهندوسية أن الخادة بارفاني ابنة ملك جبال هملايا انسحبت من الحياة إلى الجبال العالية لكي تخضع لتقشفات شاقة. 

وبالإمكان التعرف أكثر على شخصية الإلهة أرتميس إذا توصلنا إلى دلالة الرموز المرتبطة بها. ولا بأس من التذكير بأساطير ذات علاقة مع القمر، على الرغم من إشاراتنا الكامنة عن العلاقة الثنائية المتناظرة بين الإلوهة المؤنثة/ الأرض وبين القمر، لكني سأشير إلى أسطورة هندية خاصة بهذا المجال، ولها علاقة بالأرنب أحد رموز الإلهة أرتميس. ودعت بعض الشعوب القمر باسم الأرنب.. وأعتقد البوذيون انه كانت لبوذا نفسه صلة بظهور الأرنب على القمر ويقال بأنه عاش على الأرض في الزمن الغابر أرنب نبيل، طيب القلب وعطوف. وقد دعا الجميع للتسامح واقتسام لقمة العيش مع الجائع وكان الأرنب على استعداد للتضحية بنفسه، إذا علم أن الناس لا يجدون ما يقتاتون به، كما يقتات هو بالإعشاب، وحين سمع بوذا بذلك ظهر للأرنب في صورة راهب.

يطلب صدقة. فعزم الأرنب أن يطعم الراهب لحمه مهما كلفه الأمر، ورمى بنفسه إلى النار، لكن بوذا جعل النار لا تمس الأرنب، وجعل هذا يمضي إلى القمر، ومنذ ذلك اليوم والأرنب يعيش هناك.

تكشف هذه الأسطورة عن درس أخلاقي/ اجتماعي في الإيثار ونكران الذات والتعاون مع الآخرين. وحتماً كان سبب اختيار أرتميس للأرنب لوجود ما جعله قريباً منها، وأعتقد بأنه - الأرنب - يماثل القمر بالحركة والزوغان وسط الغيوم، وحتماً كانت أسطورة الأرنب والقمر ذات أصل ثقافي مع الإلوهة المؤنثة ما دام القمر متماهياً معها فإن العلاقة الموجودة بين القمر والحيوانات الأخرى، تشتغل بشكل من الأشكال. وعرفنا قبلاً أن صفة الإلهة البقرة وحازت كثير من الإلوهات المؤنثة والامومات الكبرى هذه الصفة تعبيراً عن الخصب والكثرة واستمرار الانبعاث والتأثير الفرعوني واضح في ذلك.

عندما لا تظهر الأم الكبرى في الأعمال التشكيلية على هيئة البقرة الكاملة تظهر رأس البقرة أو بقرون البقرة، وتشير إليها النصوص الميثولوجية والطقسية بلقب البقرة فالإلهة “نوت” المصرية التي هي قبة السماء كانت تصور في هيئة بقرة كاملة، والأم المصرية “نيت” كانت تدعي بالبقرة السماوية، والإلهة “ هاتور” كانت تظهر دوماً برأس بقرة، والإلهة ايرس إن لم تظهر برأس بقرة، ظهرت وعلى رأسها قرنان كبيران غالباً ما يحتويان قرص القمر بين طرفيهما. 

كانت “ننسون” أم الملك جلجامش بقرة أيضا، وقلنا بدلالة ذلك، ولعل الديانة الهنديَّة أكثر الديانات الشرقية تقديساً للبقرة، وهي الأم الحقيقيَّة الكبرى والمقدسة وحيازة أرتميس لهذا الرمز يجعل منها أكثر قرباً من الأمومة أو وظائفها الجلية. أما العلاقة مع الأيائل فهي متأتية من كونها رمزاً معبراً عن الإلوهة المؤنثة في الشرق وبالضرورة أن تكون علاقة دالة على أرتميس. وما زال هذا المعتقد المرتبط بالأم الكبرى الراعية والمباركة منتشراً وتتبارك العوائل بتعليق رأس الأيل في الممر المؤدي إلى داخل البيت، واستبدال الرأس الحقيقي بسبب ندرته بآخر بلاستيكي معروف في الأسطورة الإغريقية ملاحقة البطل هرقل للرمز القمري يقتل “هيدرا” التنينين ذوي الرؤوس السبعة ويمرغ أنف الإلهة أرتميس في التراب عندما يقبض على أيلها البري المقدس، الذي لم يقدر عليه أحد من قبل ويقبض على الخنزير البري الشرس، وهو من الرموز التقليدية للأم الكبرى ويصرع الثور الوحشي الإلهي ويتغلب على قبيلة النساء الأمازونيات.

 وتتضح في هذه الأسطورة المشتركات بين البطل جلجامش ملك مدينة أوروك وهرقل. كلاهما من أم بشرية واستهدفا معاً الرموز القمرية، وكشفت ملحمة جلجامش انتصار الملك في قتل خمبايا وقطع أشجار الأرز وقتل الثور السماوي السحري الرمز المشترك بين عشتار وأرتميس، وتعبر ملاحقة الرموز القمرية عن الصراع الثقافي/ الديني بين السلطة القمرية/ والأخرى الشمسية بعد صعود النسق البطرياركي، هذا ما اهتمت ملحمة جلجامش ويلاحظ أن الثور هو الرمز المشترك بين ديانات الشرق وحيازة الأم الكبرى له بالإضافة للألوهات المؤنثة ضرورة واشترك الإلهة الذكور بهذا الرمز ولم يكن خاصاً بالألوهة المؤنثة، بوصفه ابنا وزوجاً فحلاً وقوياً كان الثور رمزاً للألوهة الشابة وحصراً الإله دوموزي/ تموز والإله أنكي وشمش ويتمتع الثور بحضور واسع في ديانات، ولا تكاد أرتميس تظهر في رسم أو نحت دون حيواناتها من أيائل وغزلان وما إليها. 

أما في شتال حيوك لا يكاد يخلو معبد من معابدها الكثيرة من رأس الثور الوحشي. وخارج منطقة الشرق الأدنى القديم نعثر على الثنائي المقدس في كريت حيث يزين رأس الثور الوحشي جدران القصور والمعابد، كما نطلع عليه في مطلع عهود مدن يونانية كثيرة كطيبة ودلفي، وفي مقدونيا، وتراقيا وربما تلقي أسطورة الميناتور الإغريقية أضواء على عبادة الثور في كريت، فالميناتور كما تروي الأسطورة كان مخلوقاً عجيباً نصفه ثور ونصفه الآخر رجل، صنع له ملك كريت مينوس قصراً خاصاً على شكل متاهة لا يستطيع الداخل إليها أن يعثر على طريق خروجه منها. 

أما أرتميس إلهة العبيد والغابات والبراري الوحشية، فقد عبدت في بعض المدن اليونانية خارج أرض اليونان على أنها الأرض الأم. في مدينة افسوس الإغريقية بآسيا الصغرى نجد أرتميس العذراء الرشيقة القد، وقد رسمت في هيئة سيدة ممتلئة يندفع من صدرها عشرات الأثداء. وكانت تماثيلها تدهن باللون الأبيض آنا وباللون الأسود آنا آخر.

مند ولادتها أسرعت تجوب الأحراش وتطوف البراري بصحبة كلابها المتوحشة. من ألقابها “المدمرة “ سيدة الموت المفاجئ “تطلق سهامها فتصيب وتقل وترسل الأمراض الفتاكة فتفنى المواشي والسكان. وكانت تسر بالأضاحي البشرية. ففي إلياذة هرميروس نجد أغا ممنون يذبح ابنته “افجينيا” قرباناً لأرتميس السوداء لتقوم بتحريك الريح أمام سفن الإغريق في طريقهم إلى طروادة وفي رواية أخرى للحادثة نفسها، أن الإلهة قد أنقذت أفجينيا في اللحظة الأخيرة من الذبح وحملتها إلى منطقة تاورس، حيث جعلت منها كاهنتها الأولى المشرفة على الأضاحي البشرية التي تقدم هناك لأرتميس ومنطقة تاورس هذه كانت معروفة بالأضاحي البشرية التي تتقرب بها العباد لأرتميس السوداء الشرهة للدماء، حيث كان الغرباء ممن قضى حظهم العاثر الاقتراب في تلك الشواطئ يقدمون على مذبح الإلهة. وفي مناطق أخرى جرت العادة في فترات قديمة من تاريخ الإغريق على تقديم عدد من الفتيان قربانا لأرتميس كل خمس سنوات. ثم استبدل طقس القرابين بطقس الجلد بالسياط أمام تمثال الإلهة. 

كان الشباب يساقون في مناسبات معينة إلى معبد أرتميس، حيث يتم جلدهم بقسوة أمام تمثال الإلهة المحمول من قبل كاهناتها على محفة خاصة. وكان وزن التمثال، كما تروي الأخبار، يزداد ثقلاً إذا توانى المكلفون بالجلد عن أداء مهمتهم على الوجه الأكمل.