صلاح ستيتية.. زهرة الوجود المغلقة

ثقافة 2023/10/05
...

 طالب عبد العزيز 


مع أنَّه أخذ على أدونيس تأثره بايف بوفوا في ديوانه(تحولات الليل والنهار)إلا أنَّ أدونيس نفسه عرِّفه بقوله هو « الشاعر الذي يكتب الفرنسية بلغة عربية» نقرأ ذلك عن(شاعر المنهلين) الفرنسيَّ، ذي الاصول اللبنانية، صلاح ستيتية (1929-2020) في مجموعة النصوص، التي ترجمها مصباح الصمد، وصدرت عن دار النهار، قبل أكثر من عشرين سنة. حيث تحيلنا عناوين إصدارات ستيتية المخصصة للمقالات، والتي تختفي فيها رائحة الفرنسية في الاختيار العربي الدقيق لعناوين كتبه مثل (حملة النار، أور في الشعر، الليلة الحادية، فردوس، الرامي الأعمى، رحلة حلب، السبعة النيام، نور على نور)هذا الشاعر الذي لم يشأ هجران لغته، وثقافته العربيَّة الاسلامية، والتي فارقها في السادسة عشرة من عمره، لكنه أرادها خالدة في اشتغاله الأبداعي، فهي مبثوثة بشكل ساحر وعجيب في شعره، وفي ما كتبه من نصوص في السرد، كيف، وهو القائل «نحن لا نسكن وطناً، بل نسكن لغةً». صلاح ستيتية المتعطش لليل وللسماء العارية، والذي يجد نفسه «ممزقاً بين العدد والليل» واحدٌ من شعراء منحوا الفرنسية أكثر مما منحها الكثير من شعرائها. 

  وعلى خلاف القاعدة، إذْ، لم يحدث أنْ تمكنت اللغةُ العربية من شاعرٍ أو كاتبٍ أوربيٍّ، من الذين زاروا شرقنا العربي، أو أقاموا فيه، وتعاملوا أو تماهوا مع لغته وثقافته، مثلما حدث مع ستيتية، الذي لم يتردد اندريه دي مونديارغ، وهو شاعر معاصر لستيتية، في تفضيله على بول فاليري بقوله:» إنَّ كان ما في شعر بول فاليري من ذلك التفضيل ويعني(الفلسفة الافلاطونية،الشهوانية الوجودية) فانه لم يكن اقوى ابداعا منه». 

   ظلَّ الشرقُ محطة استكشافٍ، وزخرفاً لغوياً، ومنمنماتِ تزييّن، وأساطير حُلمية عند أدباء أوربا،بمن فيهم الفرنسي جيرار دي نرفال(1808-1855) الذي زارالقاهرة واسطنبول (القسطنطينية)وتوقف بلبنان وفلسطين في كتابه(رحلة إلى الشرق) ونجد محدودية الرؤى والتناول هذه في كتب أخر، ولا نستثني من ذلك الالماني جيته(1749 - 1832) في (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)الذي لم يذهب أبعد من تعلقه بشعراء الفارسية(حافظ وسعدي وعمر الخيام) وهكذا، ظلت روحُ الشرق الحقيقي، القائمة على البنى المفارِقة اجتماعياً وثقافيا بعيدة عنهم جميعاً، الامر الذي اجتمعت أطرافه الشرقية والغربية في ما ثقافة ولغة وشعر ستيتية، هذا الذي لم يعول في شعره على التجربة، يقصد العواطف الروحية والشهوانية والمناظر الخلابة ووقع المصائب الكبرى وكل ما يعصف بالانسان، لأنَّ القصيدة لديه لا تتكون من افكار وعواطف.. بل من كلمات، كما يعتقد ملارميه، فهو القائل:» الوردةُ حديقةٌ تتوارى فيها الاشجار».  

   الغريب أنَّ قارئ شعر ستيتية لن يلحظ تأثره بأيِّ شاعر فرنسيٍّ، على معرفته الكبيرة بالفرنسية، لغةً وشعراً وثقافةً،  ولم يجد اندريه ميكال فيه شاعرا كبيرا فحسب، انما كان يغار منه، ويحسده فيقول:» كان قليلا انْ أُظهرُك شاعرا وعالِما في لغتك، هذه اللغة التي تجعل منكم كلكم، او جلّكم ايّها العرب سدنةً لكلام جوهري» ... ثم يتحدثُ عن قيمته اللغوية فيقول:» تاتوا الينا لتقطفوا من ثمارنا، اكثرَها انتسابا إلى العالم» إذن، لم يكتف ستيتيه ببزِّ الشعراء الفرنسيين في لغته وثقافته العربيتين، إنما بزَّهم بلغتهم وثقافتهم، لهذا جاءت جملة أدونيس(شاعر المنهلين)تامَّةً ودقيقةً، في وصف شاعر استثنائيٍّ،على تضيق ضفتي المتوسط..   في (ليل المعنى) كتاب الحوارات مع ستيتية، الذي أصدره جواد صيداوي، عن دار الفارابي نجده يستحضر وبشكل لافت كبار شعراء العربية مثل اِمرئ القيس والمتنبي والمعرّي والبحتري، مع من يستحضرهم من الشعراء الفرنسيين، وبخاصة شاعره المفضل (بيار جان جوف)الذي قرأه عقب وصوله باريس مباشرة، بل ويذهب إلى تفضيل الكثير من الشعراء العرب القدامى عليهم، ذلك لأنه متيقنٍ بأنَّ العربية تنطوي على ما لا طاقة للفرنسية به، وكان يرى فيها (العربية) رباطاً سرّياً لعالم آخر، تبلغ به الحدودَ القصوى، لما لا يعبّر عنه. واضح أنه أراد من إقامته على الارض أن تكون شعرية، بتعبير هلدرلين. نتحدث عن صلاح ستيتية بوصفه شاعراً كبيراً، هذا الذي وقف حزيناً امام اعتداء حرارة الشمس اللاهبة على طهارة الندى، المتأمل الوحيد في زهرة الوجود المغلقة.