جذور {النواعي} في غناء الجنوب

ثقافة 2023/10/08
...

 كريم راهي

علنا لا نأتي بجديد القول حين نزعم أن ثيمة البكاء هي أهم ما ميّز غناء الجنوب العراقيّ في القرن الفائت، استمراراً لحقبة طويلة من النياح، ولعل ذلك متأت من النكبات التي منيَ بها السواد الأعظم من ساكني حوض ما بين النهرين الأسفل، ونعني ما مرّ بهم من حروب وأوبئة وغارات.. إلخ. وليس آخرها ما أعقب الاحتلال البريطاني، بعد أن قامت الحكومة الملكيَّة بإقرار قانوني اللزمة والتسوية القاضيين بتثبيت حدود الملكيات الإقطاعيَّة وتخصيصها لشيوخ العشائر وكبار الملاكين، ومن ثمَّ نفوذ طبقة «السراكيل» على حساب الفلاحين المعدمين الذين كانوا بالكاد يجدون ما يؤمن قوتهم اليومي، وهو السبب الذي حدا بأولئك الفقراء مسلوبي الإرادة، للقيام بأكبر هجرة جماعيَّة إلى العاصمة ابتداء منذ الثلاثينيات، وهو الأمر الذي لا يزال يثير الكثير من اللغط.
لا يُخفى أن بدايات الغناء كانت مرتبطة بأقدم نمط غنائي وصلنا مُسجّلاً، ونعني به (البستات) التي كانت تُختم بها وصلات (المقام العراقي) في العادة، غير أن نمطاً من القراءة اللحنيَّة كان يمتدّ بموازاته، ولم يكن قد اكتسب شرعيَّة الإيقاع بعد، ذلك هو نمط مراثي آل البيت التي وجدت حاضناً لها في بيئة الجنوب، على اعتبار أنّها تحاكي مصيبة الإرادة المسلوبة بطريقة اجتلاب عواطف الألم الخام وتوجيهها نحو بوتقة البكاء الكبرى، أعني فاجعة الطف. وبحلول آلة الربابة بدويَّة الأصل التي جلبها الغجر بحكم تنقلهم كقوم رُحّل ما بين البادية والريف، وبروز الحاجة لأن يتحوّل النمط البكائي إلى إيقاعي - جسدي بالضرب على ما يُحاكي ضربات الطبلة، تحوّلت تلك الأشعار؛ الأبوذيات بالذات التي هي سليل العتابة البدويَّة، إلى نمط غنائي متسيّد في تلكم البيئة الرعوية جديدة العهد بالتحضّر، ولهذا تفصيل تناولنا شيئاً منه في كتابنا (قصائد خالدة من الشعر الشعبي العراقي)، ولقد وجدت تلكم الأشعار مكاناً لها في تلك البيئة المفجوعة، لكن بغياب الباعث الطربي الخالص الداعي للفرح، لترافقها صيحات قهر لن تبرح مكانها في الأغنية، وأعني (النواعي) التي ما زال تأثيرها هو إيّاه في أطوار الغناء الجنوبي، رغم اختلاف الحال.
إنَّ هذه المقدّمة القصيرة لموضوعنا الحالي هي نواة لفصل موسّع سوف يتضمنه كتاب نعمل على إنجازه تحت عنوان (جذور الأغنية العراقية)، وهي التي ستمهّد الطريق لفهم مكانة (الصيحات) أو التوشيحات المرتجلة التي تستدعي التعاطف مع المغنّي الذي يوظّف حالات القهر الاجتماعي، وضمناً العاطفي، في الغناء.
إنَّ ما نعنيه بالصيحات هو تلك الارتجالات التي ترد كتحليات في بعض أطوار الأبوذيَّة، وهي من وزن يُعرف في شعر العامية العراقي بـ (النعي)، ووزنه العروضي (مستفعلن مستفعلاتن)، وهو وزن شعري ليس بذي شيوع يُذكر في شعر القريض، ويمكن أن نورد مثالاً عليه قصيدة للجواهري كتبها آنفاً بمناسبة (عيد المرأة) ومطلعها:
«حييتُهنَّ بعيدهنّه... من بيضهنَّ وسُودهنّه»
وهي كما هو متعارف عليه في ميزان الفراهيدي من مجزوء الكامل المرفّل (متفاعلن متفاعلاتن)، وضربها الإيقاعي (دُمْ تَك تَتَك دُمْ تَكْ تَتَكْ تَكْ). ويقول العروضيون: «إن علّة الترفيل هي زيادة سبب خفيف (تن) على ما آخره وتد مجموع (علن)» وقد أجازوا ذلك في ضروب مجزوء الكامل، على اعتبار أن أية زيادة تطرأ على التفعيلة يتوجّب أن لا تأتي إلّا في الجزء المُقفّى من البيت، صدراً كان أم عجزاً، كقول المنخّل في مطلع قصيدته التي توجّب أن يلتزم التقفية في شطريها:
«إن كنتِ عاذلتي فسيري... نحو العراق ولا تحوري»
ومن الشروط غير المُلزِمة هذا النوع من النظم، أن يأتي النعي في العادة بعدد فردي من الأشطر، وأغلبه بثلاثة، وقد يشطّ البيت في العاميّة عن الوزن الشعري قليلاً لمطاوعة النسق البكائي، وهذا ما لا يُسمح به في الفصيح، إذ أنه يجوز للناعي ما لا يجوز لغيره: فممّا خرج به مسعود العمارتلي على الميزان: (أنا شبيدي وشسوي، مظيليمة يا بدرية).
كما أن أغلب هذه الصيحات صارت تشكل عناوين للبستات -التي عمادها الدارمي- باعتبارها لازمات متكررة، ويمكن ذكر صيحة (أموتن وعيبك من اهلك) لمسعود العمارتلي عنواناً لأغنية على سبيل المثال، أو الصيحات المتتالية عند داخل حسن (محد بضيم احّد تكلّف، بعيد اشتمر عنهم يگلبي، يمكن لگوا غيري ونسوني). أو فيما يرد في (تانيني): (ريّض وخلّ اعاتبنّك)، أو (عليش يهلي ظلمتوني)، (عليش ترضون بعذابي). أو صيحة (يَجْهال ملّختوا گليبي) في أبوذية (على يمار).
وقد أدّى (مسعود العمارتلي) صيحة النعي كلازمة غنائية أيضاً في (بو جناغ چا عِد من عفتني)، (إي يا نويعة اهنا يبوية) كلازمة دارميات فيها (غريب وين أهلنه، بويه يجناغه بعكاشية). وفي (يا سكينة): (يا سكينة ويا جناغچ..)، وله في أبوذية (ونّساني) من الصيحات (ردّي عليه يا سكينة)، (هذا ونيني وبعد اريده)، (شيلوا الزاد بالزبد غصيت)، (طش وانه الم شنونة يم نونة). ويُلاحظ في بعضها الخروج على الميزان الشعري، وهو كما أشرنا أمر مألوف.
وعلى الهچع صاح مسعود أيضاً (عبّاس كتلتني ام جديلة، ترضون ما ترضون أهيمن) والأخيرة وظّفها (محمد جواد أموري) في (أبو زرگة) لياس خضر، وغنى أيضاً ياس خضر على المقسوم (يا ولفي مالي حيل) وقوامها الدارمي، وكان الأصل لداخل حسن. ومن أوجه التشابه الصيحتان (صحت (الله واكبر يا زماني))، (لا ريدهم (لا ريد حنّتهم عليه))، والأخيرة كانت قد غنّتها سليمة مراد في (حلو وبوجنته شامة).
وهنالك (تطشر جناغة ورد المّه)، وهي صيحة ناصر حكيم في اغنية (ويلي عيوني)، وهناك أيضاً: (يتلولح يريد يطيح گلبي)، و (كاغد وجاسه الماي گلبي).. والأخيرة هي الأكثر شهرة، وقد وظفها الكثير من الشعراء والقوّالين في نصوصهم حتّى غدت اللازمة الأشهر من الصيحات في الوجدانيات العراقية. ولقد صاح كاظم الساهر من شعر (كريم العراقي) على هذا النمط؛ (معلم على الصدعات گلبي) في (الله على البلوى يعينك)، وهي من تراث منطقة العمارة الذي وظفه (العراقي) في الغناء الحديث.
لقد انتقلت صيحة النعي لتصبح لازمة ثابتة في طور (ونين سوگ الشيوخ) التناوبي، وهو نمط غنائي كان شائعاً لحدّ قريب في مقاهي مدن الناصرية، وتمثّلت بعبارة «يعبر على بنادم ونيني» التي تفيد الترحيل. ولربما جاز لنا أن نضمّ طور المناگل في ريف العمارة إلى هذا النمط التناوبي الغنائي.
ولقد تغلغل وزن النعي الغنائي واكتسب شرعيته الدينية في أطوار الرثائيات المنبريّة التي تفنّن بها المقرئون، ومن أشهر ما يُتلي في بداية مرحلة «المصيبة» من القراءة الحسينية عبارة «أنه الوالدة يحسين يبني...» التي اشتهر بها الناعي الأشهر السيد جاسم الطويرجاوي. ولربما كانت رثائيات نسوة الطف لأبنائهن من شهداء الواقعة، من أشهر ما يُذكر في هذا الصدد:
«يَجمّال لابني أرد اودعه.. وآنه ارد اشم نحره وارَضعه.. من گلبي چا ذكره شيطلعه».
وللاستزادة في هذا الصدد، نشير بالرجوع إلى جميع الكتب والتسجيلات المنبرية العاشورائية التي تكاد لا تخلو من شواهد متعددة في هذا الشأن، عنك الدروس الفيديوية المنتشرة في تعليم أطوار القراءات المنبرية.
ولربما كانت تنويمة (دللّول) هي الأشهر ممّا كُتب على هذا النمط، وقد غنتها (بدرية أنور)، وأعادت غناءها (وحيدة خليل)، فلقد التزمت القصيدة كاملة هذا النمط البكائي، وهي لا تتعدّى غرض الشكوى، الغرض الذي تسيّد أشعار وغناء الأرياف العراقية، الشكوى من لوعة الحب صعب المنال مموّهة بألم رثائيات أمّهات فاجعة الطف كمتنفّس للبكاء، وهو غناء فالت من دون ضرب إيقاعي: (من اگول يمّه يموت گلبي)، (إبني وريد ارباي منّه)، (مطرور طرّ اللوح گلبي)، (دنام والنومة هنيّة، نوم الغزيّل بالثنية):
«دللّول يالولد يبني دللّول، عدوّك عليل وساچن الچول».
«يِحگّ إلي لو صير دلّي، واطلّگ الدنيه وولّي، على ظليمتي من دون حلّي».
«هبّ الهوى وافتكّت الباب، حسبالي يمّه خشّة احباب، ثاري الهوى والباب چذّاب».
«ما ريد من جدرك غموس، ولا ريد من جيبك فلوس، ردتك إلي هيبة وناموس».
أو ما ناحت به الأمهات العراقيّات في هدهدات «التلولي»: «امّ الولد تحچي بالذراع، مثل السفينة الشايلة شراع، مالي ولي ودنگّت للگاع».
لقد أورد (حسين قدّوري) في كتاب (لُعب وأغاني الأطفال الشعبية في الجمهورية العراقية)، ما يُنسب ببادئة (ليلوّا) إلى مناطق بغداد وكربلاء وقلعة سكر وسامراء في هذا النمط البكائي المضمّخ بالشكوى -انظر ج1 ص22 من الكتاب المذكور- ثم أفاض فنشر في عام 1989 كتابه (غناء الأم العراقية لأطفالها) الذي ضمّنه فصلاً بعنوان (أغاني المهد- الدلّلول) أفاض فيه شرحاً.
وقد لا نرى عجباً إن وردت بعض أبيات الدارمي ضمناً في النعي (مالچ ييمّه شبيچ جبتيني للضيم.. أمست علَي دنياي تمطر بلا غيم)، فإنَّ وزن النعي ممّا يُردّ إلى الدارمي عروضيَّاً كما يقول بذلك الشاعر الأهوازي (حكيم عيداني): إذ إن «النعي في وزنه يعتبر مجزوءاً للركباني، كما دلّل بذلك الأستاذ الخاقاني بقول السيد إبراهيم وفي، بأن النعي ليس بحراً مستقلاً بذاته، فإنّه في حالة إضافة (مفعول) في وسط أي من أشطر النعي، يصبح الوزن ركبانياً كاملاً»، ومثاله الأقرب ما يمكن أن نلاحظه بإضافة ما هو على وزن (مفعول) إلى النعي وقراءته على أنه دارمي:
هب الهوى [يفلان] وافتكّت الباب... ثاري الهوى [يهواي] والباب چذّاب.
ويضيف (عيداني) أن النعي وزن مستحدث ابتكرته امرأة من الأهواز، «ولكن لا توجد أدلة قطعيَّة في هذا القول»، وينسبون إليها قولها في رثاء أخيها، ما يردُ فيه ذكر الحويزة ونهر الكارون:
«شفت الظعن طرّ الحوِيزة، ومچفّنينه بثوب ريزه، يا شوفة الوالي عزيزة».
«لگعد على جرفك يكارون، واناشد اليرحون ويْجون، اتجونّي لو تعمه العيون».
وهو ما نذهبُ إلى القول به نحن أيضاً، فنسبة إلى الشاعرة (فدعة بنت عِلي آل صويّح)، وهي من (صدعان) هور الحويزة، ينقل لنا (عبد الحسن المفوعر السوداني) في كتاب عن (الشاعرة الزريجية فدعة) أبياتاً كثيرة قالتها في نعي أخيها حسين إبان إقامتهم في (الحسچة) عند شيخ الخزاعل (حمد آل حمود)، وذلك أيام مشيخته في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ويُرجّح أنها نقلت هذا النمط الشعري إلى منطقة الفرات الأوسط في تلك الفترة: «عربيد يا شيخ الحيايه.. اعلى گرصِتك ما ترهم آيه».
وعلى أننا لم نجد لوزن النعي إيراداً قط في أشعار البادية المتأخرة (الشعر النبطي)، فنحن نميل إلى الرأي القائل بإرجاع الوزن الشعري للنعي إلى جذور فارسية، لأن الأصل في الميزان العروضي للنعي لم يرد في موازين الفراهيدي على أنه شائع جاهليّاً، وإنما ذُكر في كتب العروض الفارسية بكونه من موازينهم المعروفة، وقد أوردوا مثالاً عليه: «بى تو مرا زنده نبينند    من ذرّﻩام تو آفتابي»
-انظر (فهرنگ كاربردى أوزان شعر فارسي)، حسين مدرّسي، طهران 1384، ص55-
وعوداً على بدء نقول إن حصر كافة الأغاني التي وردت فيها صيحات من هذا النمط لهو ضرب من المستحيل، إذ لا تكاد تخلو منها أغنية من العقود المنصرمة من التي تناولت الأبوذية كقوام شعري، وهذا يعود لخصوصية الوزن الشعري الذي انحصر في النعي والألم وما رافق الحرمان العاطفي من نكبات ابتُلي بها مغنّو وشعراء تلك الحقبة. وقد ترد كحشوات ما بين الكوبليهات في أغاني الچوبي مثل (يبنيّه وين تردين) التي وردت فيها (محّد بضيم احّد تكفّل). ومن صيحات جويسم في نوبة أبوذيات على إيقاع الهچع بطور (احميد): (طرگاعتك بگعة يگلبي، طرگاعتك مامش مثلهه، بنادم على بنادم تسودن، يلومونّي شيردون منّي)، وهناك صيحة الغجري چبش وادي (داخل الأعمى) على الربابة: (أنشد على من ضيّعوني).
ولقد بالغ بعض مغني (أطوار العمارة) في حشو أغانيهم بمثل هذه الصيحات كما فعل الثنائي جويسم كاظم الهليجي وگريري محمد السلمان، أو سيد محمد النوري، أو هاني وحبيب الشموسي، وكل من غنى بطور (احميّد). وليس آخرهم نسيم عودة في أبوذية بالطور إيّاه فيها صيحة (يلومونّي المطّيهم الله)، و(اثنينهن ولّن عيوني)، وبعدها أبوذية (ولا شبّ) والتي أردفها بصيحة (مالچ يگبّ صبرچ يروحي)، وهو من المكثرين في أطواره الغنائية بمثل هذه الصيحات.