جورج أورويل يرسم صورة غاندي
سانديب بالاكريشنا
ترجمة: عبود الجابري
أسبابٌ عديدة تجعل جورج أورويل واحداً من أعظم الكتاب في القرن العشرين، وأبرزها أنه كان جريئاً في الكتابة عما لم يرق له من أماكن وأشخاص، إنه يزيح الستار عن الهراء كما يقول عندما اضطر للعيش في الأحياء الفقيرة في باريس والمساكن القذرة في لندن، ومن بين ما كتب هناك مقال يبدو منسيَّاً إلى حد كبير، يتعرض فيه أورويل الذي كان ينتمي آنذاك إلى البلد والطبقة التي حكمت الهند إلى غاندي من خلال انتقادات متزنة تناقش الأسلوب الذي اتبعه غاندي في مقاومة الاحتلال البريطاني للهند، المقالات البارزة التي تعرض تألق كاشف الهراء، هذا مقال منسي إلى حد كبير بعنوان تأملات في غاندي.
تأملات جورج أورويل في غاندي
ينبغي دائمًا الحكم على القديسين بالذنب حتى تثبت براءتهم، لكن الاختبارات التي يجب تطبيقها عليهم ليست، بالطبع، هي ذاتها في جميع الحالات.
في حالة غاندي، فإنَّ الأسئلة التي يميل إلى طرحها هي: إلى أي مدى تأثر غاندي بالغرور - بوعيه الشخصي كرجل عجوز متواضع عارٍ، يجلس على سجادة للصلاة ويهز الإمبراطوريات بقوة روحيَّة محضة؟، وإلى أي مدى تنازل عن مبادئه بدخوله السياسة التي لا تنفصل بطبيعتها عن الإكراه والاحتيال؟، لكي نعطي إجابة محددة، علينا أن ندرس أعمال غاندي وكتاباته بصورة مفصَّلة، لأنَّ حياته كلها كانت بمثابة نوع من الحج، إذ يبدو أي عمل مهما كان بسيطاً جزءاً من طقوس هذا الحج.
لكن هذه السيرة الذاتية الجزئية، التي تنتهي في العشرينيات من القرن الماضي، هي دليل قوي لصالحه، خاصة لأنّها تغطي ما كان يمكن أن يسميه الجزء غير المتجدد من حياته، وتذكر المرء أنَّ شخصاً ماهراً ومقتدراً للغاية يسكن داخل هذا القديس أو شبه القديس، وكان بإمكانه، لو اختار، أن يحقق نجاحًا باهرًا كمحامٍ أو إداري أو ربَّما حتى رجل أعمال.
فالأشياء التي تبنّاها الرجل - القماش المنسوج في المنزل، و”قوى الروح” والنباتية - لم تكنْ جذابة، ومن الواضح أن برنامجه في العصور الوسطى لم يكن قابلاً للتطبيق في بلد متخلّف يتضوَّر جوعًا ومكتظٍّ بالسكان.
وكان واضحًا أيضًا أن الإنجليز كانوا يستغلّونه، أو ظنّوا أنّهم يستغلونه.
بالمعنى الدقيق للكلمة، باعتباره قوميَّاً، صحيح أنَّهُ كان عدوّاً، ولكن بما أنّه كان يبذل قصارى جهده في كلِّ أزمةٍ للحيلولةِ من دون العنف - وهو ما يعني، من وجهة النظر البريطانية، منع أيّ عمل عنيف مهما كان - فيمكن اعتباره “رجلنا”.
ورغم أنَّ أثرياء الهند كانوا يسخرون من مذهبه في المقاومة، إلّا أنّهم عادوا وأعلنوا توبتهم لأنَّه بطبيعة الحال يمثل لهم خياراً أفضل من الشيوعيين الذين لو أتيحت لهم الفرصة لكانوا قد أخذوا أموالهم بكلِّ تأكيد.
يقول غاندي نفسه، “في النهاية، لا يخدع المخادعون إلّا أنفسهم”؛ ولكن على أيَّة حال فإنَّ اللّطف الذي كان يُعامَل به دائماً تقريباً كان يرجع جزئياً إلى الشعور بأنّه مفيد.
ولم يغضب المحافظون البريطانيون منه إلّا عندما تحوّل من حامل لراية اللاعنف إلى فاتحٍ مختلف.
ولكن حتى في ذلك الوقت كان بوسعي أن أرى أن المسؤولين البريطانيين الذين تحدثوا عنه بمزيج من السخرية والاستنكار كانوا أيضاً معجبين به حقاً، على نحوٍ ما.
لم يُشِر أحد قط إلى أنَّه كان فاسداً، أو طموحاً بأي طريقة مبتذلة، أو أن أي شيء فعله كان بسبب الخوف أو الحقد.
عندما نحكم على رجلٍ مثل غاندي، فإنّ المرء وكأنه يطبق بشكل غريزي معاييرَ سلوكيةً عالية، حتى أن بعض فضائله مرَّت من دون أن يلاحظها أحدٌ تقريباً.
على سبيل المثال، صلابته الجسديَّة والجلَد الذي كان يبديه في مقاومة الغرائز اليوميَّة للبشر، وفراسته المذهلة في كشف الكذب، والتظاهر حيثما كان ذلك ممكناً أن الآخرين يتصرّفون بحسن نيّة وأنَّ هناك جوانب خفية لديهم يمكن من خلالها الاقتراب منهم.
وعلى الرغم من أنه جاء من أسرة فقيرة من الطبقة المتوسطة، وبدأ حياته بشكل غير مواتٍ إلى حدٍّ ما، وربما كان مظهره الجسدي غير مثير للإعجاب، إلا أنه لم يكن مصاباً بالغيرة أو الشعور بالنقص، وخير مثال على ذلك عدم اكتراثه بالصدمة التي تلقاها بسبب لون بشرته عند ذهابه إلى جنوب أفريقيا في ذروة اشتعال حرب التمييز العنصري وحتى عندما كان يخوض حرباً كانت في الواقع حرباً ضدَّ فكرة اللون، فلم يكنْ يفكر في الناس من حيث العرق أو المكانة.
ويجدر بنا أن نتذكّر أن غاندي بدأ مسيرته بطموحات طبيعيَّة لطالب هندي شاب، يرتدي قبعة عالية، ويتلقى دروساً في الرقص، ويدرس الفرنسية واللاتينية، ويصعد برج إيفل، بل ويحاول تعلم العزف على الكمان - كل هذا كان من أجل استيعاب الحضارة الأوروبية على أكمل وجه ممكن.
ولم يكن من القديسين الذين يتميزون بتقواهم الهائلة، ولم يهجر الحياة بعد خطايا لا يمكن لها أن تكون خطايا، بضعُ سجائر، ولقيمات قليلة من اللحم، وبعض الأنا التي سرقتها الخادمةُ في طفولته، وزيارتان إلى بيت للدعارة (في كل مرة كان يهرب من دون أن “يفعل أي شيء”)، ونجاته مرة بصعوبة من إغواء صاحبة المنزل في بليموث.
يقول غاندي إنَّ الصداقات المتينة خطيرة، لأنّ “الأصدقاء يتفاعلون مع بعضهم البعض”، وأنّ الولاء لصديق يمكن أن يقود المرء إلى ارتكاب الأخطاء. هذا صحيح بلا شك.. كثير من الناس لا يرغبون حقاً في أن يكونوا قديسين، ومن المحتمل أن بعض الذين يصلون إلى القداسة أو يطمحون إليها لم يشعروا أبداً بإغراء كبير لأن يكونوا بشراً. إذا تمكن المرء من تتبع جذوره النفسيَّة، فأعتقد أنه سيجد أن الدافع الرئيسي لـ “عدم التعلق” هو الرغبة في الهروب من آلام الحياة...
ومع ذلك، يمكن فصل سلمية غاندي إلى حدٍّ ما عن تعاليمه الأخرى. ربما كانَ دافعها دينياً، لكنَّه ادّعى أيضاً أنَّها تقنية نهائية، وطريقةٌ قادرة على إنتاج النتائج السياسيّة المرجوة... وكانت وجهة نظر غاندي هي أنّه يجب على اليهود الألمان أن يرتكبوا انتحاراً جماعياً، الأمر الذي “كان من شأنه أن يثير العالم والعالم”، قال ذلك رغم وسائل المقاومة السلميَّة التي كان يبشّر بها، لكن رؤيته هنا كانت تبعاً للقسوة التي مارسها هتلر ضد اليهود، فهم سيموتون على أي حال كما يرى.
يشعر المرء أنَّ هناك الكثير مما لم يفهمه عن شخصية غاندي ... لم يتملكني على الإطلاق شعور بحب كبير لغاندي، لكنني لست متأكداً من أنه كمفكر سياسي كان مخطئاً في الأساس... عندما أغتيل، هتف العديد من الناس المعجبين به بحزن قائلين إنّه عاش فترة كافية ليرى حياته تتحقق على شكل من الخراب، إذ كانت الهند منخرطة في حرب أهليَّة... لقد تم تحقيق هدفه السياسي الرئيسي، وهو إنهاء الحكم البريطاني سلمياً بحلول عام 1945، إذ ارتفع عدد كبير من الأصوات المتعاطفة مع استقلال الهند، إلى أي مدى كان ذلك بسبب تأثير غاندي الشخصي؟، وحين ارتبطت الهند مع بريطانيا أخيراً في علاقة لائقة ووديَّة، فهل سيكون هذا جزئياً بسبب غاندي؟... قد يشعر المرء، كما أشعر، بنوع من النفور الجمالي تجاه غاندي، وقد يرفض المرء ادعاءات القداسة المقدمة نيابة عنه... قد يرفض المرء أيضاً القداسة كمثل أعلى، ومن ثم يشعر أن أهداف غاندي الأساسية كانت معادية للإنسانية ورجعية: ولكن يُنظر إليه ببساطة كسياسي، وبالمقارنة مع الشخصيات السياسية الرائدة الأخرى في عصرنا، لا أجد ذلك الأثر الذي يستحق هذا الإطراء لعطرٍ لم يترك وراءه أثراً ممتداً.
• سانديب بالاكريشنا/ كاتب مختص بالتاريخ و الحضارة الهندية
• المصدر: مجلة (رسل الحكمة) Dharma dispatch-