خوارزميَّة العالم ومآل الإنسان

منصة 2023/10/08
...

  ميثم الخزرجي

من المؤمل أنْ تكون حلقة الوصل بين الإنسان والمستقبل هو الواقع المعيش الذي يتماهى الإنسان بفطرته مع حيثياته وتقلباته المواتية، ليتنفس محتواه ويلوك تفاصيله ويُلزمه على كثيرٍ من الجزئيات الوافدة التي تعنى به كمهام وصيرورة تدير شأنه من الناحية الإجرائيَّة المستحوذة على رؤاه، فيعمد إلى تنشئته وتربيته وفقاً لكمٍ من المهيمنات التي حوصر بها وهنا تكون قوانين الطقس والمناخ من الأولويات الحاضرة في هذا المضمون وبعيداً عن فاعليَّة الما حول ومؤثراته الطبيعيَّة، أجد أنَّ ثمة سياقاتٍ معينة لا تحتكم لبواعث تدار شأناً أو غرضاً من قبل الكائن البشري، فالبناء الهرمي للعمر وفسلجة الأعضاء والسلوك السايكولوجي ومفاد الحواس كلها تندرجُ ضمن قانونٍ صارمٍ لا يتعاطى بالكيفيَّة أو المغايرة كونها سنناً خارجة عن إرادتنا كأشخاص وإنْ جاز لنا القول بتسميتها مصاديق لا يمكن التلاعب بها إلا في بعض من جوانبها العضويَّة التي تحتاج الى تدخلٍ علمي أو طبي معينٍ وفقاً لمنظومة تعنى بذلك مثل عمليات التجميل أو زراعة الأعضاء أو التحول الجنسي على الرغم من الإشكاليات التي تتعلق بالأخير من ناحية التغيير الهرموني، غير أني أتحدث عن مزايا غير قابلة للتعديل ولا علم لنا في الأيام القادمة قد يجري انقلابٌ علميٌ يصاغ على إثره الإنسان صياغة مختلفة عمَّا كان عليه، لكني أتوقف عند المفهوم الذي ينظر إلى الفعل الفيزيائي كالحركة فضلاً عن السمات النسقيَّة كالتصرف والقدرة على التحمل والمناعة وكثيرٍ من الصفات الوراثيَّة التي نمت معه فهي غير خاضعة للاستعاضة، غير أنَّ ثمة دلائل عامَّة يضمنها لك الواقع حيازة للمستقبل، فالصحة مكفولة بعدم التقرب من المحاذير التي ينصح بها الأطباء، والإسراف بالمياه وعدم بناء سدود سببٌ كافٍ بأنْ تجعل الأرض ومن عليها مصابة بالجفاف وزمن السرعة مسوغٌ ناجعٌ عن حاجة الفرد للمختصر عبر وسائل الاتصال المعلوماتيَّة وعوالم التكنولوجيا الفطنة التي تزيل العقبات وتذللها وحتى التعاليم اللاهوتيَّة لها أنظمتها التي تشكل على الفعل المشين مبيّنة ذلك بالجنة والنار والوعد والآخرة وهذا ما نصّت عليه جميع الكتب السماويَّة على الرغم من اختلاف ماهيتها، بقي أنْ نستدلَ على المآل من خلال براهين جرت عكس ما يصبو إليه الواقع مجتمعياً واقتصادياً وثقافيا أيضاً.
واقعاً ونحن نخوض غمار هذا الزمن المتقدم من حيث الصناعة والتقنيات العلميَّة وصولاً إلى لغة التخاطب الإلكتروني للذكاء الاصطناعي والمشتمل على عدة فروع بأننا إزاء سؤالٍ جدلي ينزع نحو التشكيك، هل أن الإنسان الآني يمارس العبث تبعاً لنظامٍ معينٍ أمسك به ولا يستطيع الخلاص منه؟ أم أنَّ الفعل المترتب عليه من جراء الواقع الذي يعيشه بجميع اجتراحاته هو الذي سوّل له ذلك؟ ما أعنيه، هل أنَّ الواعز الفكري هو الذي يقوّم سلوك الفرد؟ أم أنَّ الزخم المهول الذي يندرج ضمن مسارة اليومي من حيث طبيعة العمل ومتطلبات الأسرة وأهوال الكوارث الصحيَّة وانتهاك خصويته من خلال العولمة هو الذي حرضه من الانفلات عن الأطر الصحيحة لماهيَّة الفطنة واللياقة والذوق؟ وهل أنَّ تعافي الرؤى وتطورها ناجمٌ عن الاستقرار الإنساني والمعرفي فيما إذا ادعينا بأنَّ المسار الحقيقي والفهم المنطقي لرخاء الفرد هي الطمأنينة بجميع مشاربها؟ لماذا كلما انبرت لغة الماكنة بطرح علمي جديد ضاقت السبل وأصبح المآل أكثر تصحراً وغربة؟ وهذا ينسحب على الواقع الاجتماعي والثقافي وما يسوّر الإنسان من مخاض جدلي حيال الأسئلة والقضايا الكبرى، هل أنَّ تسارع الخطى وما يدور في هذا العالم الصاخب جعلته متردداً في أنْ ينفكَّ من حزمة الخدر والتوهان التي غطس بها؟ هل أنَّ الإنسان الحالي تافه - بمعناه الجدلي- لدرجة لا يستطيع أنْ يغيرَ من أدائه؟ هل ثمة قوة خفيَّة تجبره على هذا التصرف؟
بطبيعة الحال أجد أنَّ الواقع بجميع لبوساته هو مآلٌ للمستقبل القريب، غير أنَّ ثمة خوارزميَّة رياضياتيَّة مكتوبة بعلميَّة ودقة تدير شأن الإنسان وتتحكم بمصيره وهذه الخوارزميَّة مشيدة باهتمام من قبل عقول برمجيَّة عالية تسلّع مادتها إعلامياً وتروجها لتصبح عنصراً أساسياً متداولاً لا يخرج من السياق اليومي المصاحب لتكوين جوهر الإنسان ومقوماته الأخلاقيَّة، ولو تطلعنا إلى الجوانب التي تصيّر المجتمع وتشيّده لوجدنا أنَّ هناك قوة تفرض زعامتها وفقاً لهيكليَّة مصممة بعناية، فالاقتصاد العامل المهم في بناء الدولة تبعاً لمقتضيات العيش، ناهيك عن الكيفيَّة التي من خلالها يتمُّ طرح البضائع بغض النظر عن نوعيتها وإدارة شأنها وترويجها ومدى استهلاكها، كل هذه الأمور تقاد من قبل مؤسسات ماليَّة ومصرفيَّة في سوق العملة الدولي، غير أنَّ هذا العامل لا يخلو من أجندات براغماتيَّة تصدّر ماهيتها لتنفذ على أرض الواقع عازمة على أنْ يكون الإنسان لا يخرج من مضمار منظومتها المشكّلة بحسب فكرة المؤسسة العالميَّة للاقتصاد والتي تعي جيداً ماهيَّة العرض والطلب وفقاً لمحددات مرسومة سلفاً تتفق أو تختلف مع رغبة المجتمع الشرائيَّة ومستوى دخلهم.
وما يهمنا من كل هذا هو الشأن الثقافي ومدونته الجماليَّة فهو الآخر يخضع لحوكمة لها سوقها لتصدير النتاج وذلك من خلال إشاعة محتواها عن طريق دور النشر ووسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا بعيداً عن عدتها الفنيَّة المستوفيَّة شروط كتابتها وهنا تجد امّحاء المعيار القيمي للجمال، وينجر هذا الحال على علاقة الأديب الحقيقي بواقعة ليبقى خائر القوى لا يستطيع أنْ يجد له مكاناً مضيئاً إزاء الماكنة الإعلاميَّة التي تروج لبضاعتها، فالغلبة هنا لسوق المال وما أعنيه هو الكثير من دور النشر التي تتعامل مع مؤنٍ كتابيَّة كهذه وتتبنى تسويقها وفقاً لعقدٍ مبرمٍ لا ينظر إلى الركائز الأساسيَّة والبديهيَّة التي تنطلق منها. لذا تكون جديَّة الإنسان وكفاءته قائمة على مسوغات واقعيَّة تقوده إلى العبث فمن غير الممكن أنْ يدرك قادمه كونه قد أنهك ذهنه واضمحلت قابليته على التغيير في أوانه الفعلي.