علمُ النقود.. ابتكارٌ آشوريٌّ ريادي
وارد بدر السالم
ارتبط عِلمُ النقودِ بالتجارة على نحوٍ مباشر، وسمي بـ"علم المسكوكات" أيضاً، ألحق بالتاريخ كونه يتطلعُ الى دراسة واقع العملات القديمة التي مثلت تدرجات اقتصاديَّة وفنيَّة وجماليَّة في ترك الأثر النقدي الى عصرنا الحاضر، باعتبار أن التاريخ يصنع من وثائق، بتعبير المؤرخ لانجلوا ويستوبس، ونقود التاريخ هي الوثائق غير المزورة التي تركتها لنا الحضارات الإنسانيَّة، لمعاينة أهميتها من زاويتها التجاريَّة والاقتصاديَّة في تبادل البضائع وتسويقها عبر الموانئ في أغلب الأحوال.
تترك النقود والمسكوكات القديمة انطباعاتٍ كثيرة، منها تاريخيَّة؛ كتحديد الفترات الزمنيَّة وتطوراتها في حكم الملوك والحكام، والتعرف على رسماتهم الحقيقيَّة عبر الرسوم والسك والنقوش، أو الشائع في أزمانهم من موارد طبيعيَّة، أو ما له علاقة بالشرائع الدينيَّة والطقوسيَّة، بما يسمح الى حدٍ معقولٍ من معرفة شيء من المعتقدات والوصفيَّة الاجتماعيَّة والشعبيَّة والأسطوريَّة والحربيَّة منها، وأخرى جماليَّة تعطي انطباعاً عن تطور الفن الرسمي في أقل تقديرٍ عن تلك الحقب التاريخيَّة.
وفي عمومها هي وثائق تعين الباحثين التاريخيين للوصول الى الكثير من الحقائق التي تغيّبها حلقات التاريخ الكتابيَّة والشفويَّة والأركيولوجيَّة، عبر التجارة من بيعٍ وشراءٍ ومقايضةٍ وبصماتٍ وأختام، فضلاً عن تنوع العملات وقيمتها النقديَّة من المعادن، كالذهب والالكتروم "الذهب الأبيض" والفضة والنحاس والبرونز.
الآشوريون مبتكرو العملة
(يمكن أنْ نقول إنَّ النقود هي ابتكارٌ آشوري) استهلال قدمه مؤلفا كتاب (علم النقود) أ.د. ناهض عبدالرزاق القيسي وأ.د. سهيلة مزبان حسن، كحقيقةٍ مُسلّمة بناءً على معطيات أثريَّة ومتروكات أركيولوجيَّة، أوضحت أنَّ الآشوريين، في زمن الملك سنحاريب، أوجدوا عملة (الشيقل ونصف الشيقل) في (705- 681 ق.م). بعد أنْ كانت "وحدة وزنيَّة في عهود السومريين والأكديين والبابليين" قبل أنْ تتحول الى وحدة نقديَّة في زمنهم، وقبل أنْ تنتقلَ صناعة النقود الى الليديين في بلاد الأناضول، الذين طوروا صناعتها من الفضة، مثلما طورتها الحضارات الأخرى، لحاجاتها التجاريَّة والاقتصاديَّة. ونقشت صور ملوكها على وجهي عملتها، لتشهد النقود وصناعتها وعلمها تطورات تالية في هذا المضمار التجاري.
ابتكار النقود في عهد سنحاريب الآشوري، يضاف الى سلسلة الابتكارات والاختراعات العراقيَّة القديمة في معرفة الكتابة، وعلوم الفلك والهندسة والرياضيات، وكان هذا السبق التجاري الذي أوحى الى الليديين بسك نقودهم من معدن الالكتروم (الذهب الأبيض) انتقل الى الحضارة اليونانيَّة، حتى عصر الاسكندر المقدوني، وبطبيعة الحال تفنن اليونانيون بنقش نقودهم، لتصبح (رافداً مهماً للتاريخ) عندما خلدت انتصار اليونانيين على أعدائهم، وأوضح صورة هو عندما صدوا غزواً قرطاجياً - أفريقياً سنة 480 ق. م. فخلدوه بسك نقدٍ فضي (يعادل عشرة دراخمات).
ثم أنَّ القرطاجيين بزعامة هانيبال استولوا على مدنٍ وأقاليم مثل مصر وروما واليونان فسكّوا فيها نقوداً (ذات تقنيَّة عالية حملت صورة لآلهة الفينيقيين.
من الأكيد أنَّ الابتكار الآشوري في العهد السنحاريبي، كان بادئة أولى، وخميرة ذكيَّة لصناعة عملة نقديَّة، يتمُّ تداولها بين الحضارات، بما تحمله من صورٍ لملوكها، وكلمات لها رمزيتها الشخصيَّة في العقيدة الدينيَّة ومن ثم في الانتصارات العسكريَّة. الأمر الذي أدى الى انتشارها بين الحضارات، وهذا ما تشهد به المتاحف التي اكتنزت تواريخَ قديمة من قطعٍ نقديَّة ثمينة؛ ذهبيَّة وفضيَّة ونحاسيَّة؛ تُسعف الباحثين لدراسة أزمانها المتعاقبة، وتكشف أيضاً النوع الفني السائد في تلك الحضارات، التي ورثت من بعضها البعض الكثير من جماليات الأثر التاريخي والجمالي. فالنقود الرومانيَّة نقشت عليها أربعة خيول. ونقش يوليوس قيصر صورته على النقود سنة 44 ق.م. كما تدلُّ بعض الرموز والحروف على معانٍ معينة، وكان الدينار الروماني يُسكّ من النحاس المطلي بالفضة. مثلما حملت النقود البيزنطيَّة صورة السيد المسيح، أو نقش الصليب، أو صورة السيدة العذراء في أوقاتٍ متفاوتة.
وعندما نلجأ الى الترتيب الزمني والجغرافي بمعاينة انتشار النقود، بعد ابتكارها الآشوري، وانتشارها الليدي- الأناضولي، سنجد النقود الأخمينيَّة الجديدة قد عُرفت بـ"السيجولي الذهبي" و"الداراك الفضي"، منقوشاً على وجهها الأمامي صورة شخصٍ ملتحٍ يحمل رمحاً بيد وسيفاً بيده الأخرى وهو في وضع الاستعداد للقتال. وفي الدولة البارثيَّة الفارسيَّة لم تُسكُّ نقودٌ في تعاقب ملوكها، على أنَّ الدولة الساسانيَّة عرفت نقود الفضة. بالعكس من ذلك كانت العملة الهنديَّة مغايرة عن شكل النقود في الحضارات التي سبقتها، إذ تتميز (بثقلها وسُمكها وعدم انتظام استدارتها) ولكن حسب موقعها من البلاد، كالنقود الموريانيَّة (300 ق.م.) الفضيَّة والنحاسيَّة. وكان بعضها يحمل مدلولات دينيَّة كالفيل والأسد والثور. ونقود الكوشان ومملكة جبتا، حتى الفتح الإسلامي للهند الذي قاده السلطان محمود الغزنوي حاكم أفغانستان في القرن الخامس الهجري، حيث حلّت الشهادتان الإسلاميتان وبعض النصوص القرآنيَّة على وجهي العملة. وما دامت الحضارة الهنديَّة بقيت قائمة حتى مملكة فيجانجار ومملكة المغول، لا بُدَّ للحضارة الصينيَّة أنْ تكون قريبة من تلك الأصداء الهنديَّة، مع أنها كانت تفضل المقايضة في تعاملاتها التجاريَّة، واستبدال السلع بالسلع. وحتى عام 1911 ظهر أول نقدٍ فضي للصين حملت على وجهها صورة "صن بات سن".
نقود قبل وبعد الإسلام
النقود في فلسطين القديمة سُكّت في مملكة غزة خلال القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، وسكّها الأنباط في عهد الملك حارث الثاني (100 - 96 م). وسك الحضر نقودهم ويظهر على الوجه رأس الإله شمش. على أنَّ النقود التدمريَّة في عهد الملكة زنوبيا سكتْ سنة 270 م حاملة صورة ابنها وهب اللات، بينما كانت نقود اليمن قبل الإسلام يرجع تاريخها لبداية القرن الرابع ق.م. وهي النقود القاتبانيَّة المتأثرة بالنقود اللاتينيَّة في الشكل والوزن. وظلت نقود الدولة السبأيَّة تحمل بعض الكتابات الآراميَّة أو اللحيانيَّة. أما الدينار الذهبي البيزنطي والدرهم الساساني فهما من تركات نقود الخليج العربي قبل الإسلام. ومن النصوص القرآنيَّة تمَّ التعرف على الدينار والدرهم منذ عهد الرسول والخلفاء الراشدين، والى الفتوحات الإسلاميَّة في عهودهم المتتالية الى وصلت الى تونس وافريقيا وسجستان والقسطنطينيَّة وارمينيَّة، ونُقشت عليها البسملة ومعطيات انتشار القرآن الكريم من حروفٍ ومقطعات قصيرة من سورٍ قصيرة ودلالات إيمانيَّة متعددة. وخلال تلك الفترة، وما تلاها من العصرين الأموي والعباسي، ظل الدينار والدرهم عملتين رائجتين والى وقتٍ طويل.