باسم سليمان
إنّ جوهر مسرحية هاملت يكمن في عدم قدرته على اتخاذ القرار بالانتقام لمقتل أبيه على يد عمّه، لكنّ نساء المخرجة سارة بولي في فيلمها "حديث النساء" ( 2022 ) اختلفن عن هاملت واتخذن القرار بمغادرة المستعمرة القروية، التي أقامها أتباع طائفة المينونايت المشهور عنهم الابتعاد عن كل منتجات الحداثة، فما زالوا يعيشون كأنّهم في القرن الثامن عشر. أعطت سارة بولي ملاحظة في مقدمة فيلمها، بأنّ هذا الفيلم تخييل نسائي، منطلقة من أنّ الأمر في الواقع لم يحدث! فالفيلم الذي يستند على رواية الكندية ميريام تويز والتي تعود بأصولها إلى هكذا مجموعات دينيَّة، والتي جاءت بالعنوان نفسه، وتتحدث فيه عن واقعة حقيقية حدثت بين عامي 2005 و2009 في بوليفيا، حيث عمدت مجموعة من الرجال في تلك المستعمرات المنطوية على ذاتها إلى استخدام مخدّر لتهدئة البقر من أجل تنويم النساء والاعتداء عليهن جنسيًا. وقد وقع أكثر من مئة وخمسين أنثى من كل الأعمار ضحية لهذا الفعل الشنيع. وعندما كانت النساء تخبر عن الاعتداءات، ورغم الأدلة الواضحة من كدمات ودماء، كانت الإجابة من المؤسسة الدينية والذكورية، بأنّ ما يحدث لكنَّ من أعمال الشيطان بسبب خطاياكن، أو أنتن تصطنعن ذلك عبر خيالاتكن المجنونة.
هذه التهمة الأخيرة، هي منشأ ملاحظة سارة بولي، وكأنّها تقول بأنّ تلك الإناث المعنّفات، كان الأولى بهنّ أن يتخيّلن هروبهن، لا أن يلجأن إلى مسببي عذاباتهن، كي ينسبوا هذه الاعتداءات إلى الشيطان.
وفي هذا الصمت المطبق على الجرائم يحدث أن يقبض على رجل من المغتصبين، فيعترف على مجموعته، ولكي لا يتم قتلهم، يتم إبعادهم إلى سجن المدينة، فيهرع رجال المستعمرة إلى دفع كفالة خروجهم من السجن، فتغدو المستعمرة من دون رجال. أخيرًا سنحت الفرصة لأن تجلس النساء وتتداولن ما يجب أن يفعلنه، إلى جانب ذكر وحيد؛ هو معلّم المدرسة، الذي له قصته الخاصة، التي لا يشبه بها رجال المستعمرة، فأمّه قد طُردت من المستعمرة مع أبيه، لتشكيكهما بالمقولات الدينية. وبعد موتهما يعود، لتعيّنه الحكومة معلّمًا في المدرسة، ورويدًا رويدًا يلاحظ الشبه بينه وبين رئيس المستعمرة الديني، الذي كان في ما مضى قد اعتدى على أمه. يحضر أوغست (بن ويشو) كمدوّن لمحاضر الجلسات التي سيتخذ بها أحد القرارات التالية: البقاء في المستعمرة ومسامحة الرجال، أو الوقوف في وجه الرجال والانتقام منهم، أو أن تغادر النساء المستعمرة مع الأطفال.
لم تكن تلك النسوة يعرفن القراءة أو الكتابة، لكنّهن يتوصّلن بموجب قوة النقاش والجدال إلى قرار جماعي. ورغم وجود الاختلافات البيّنة بينهن بالآراء، فإنّهن يقررن مصيرهن بناءً على ديمقراطية حقيقية، فيعتمدن الإقناع بالحجج المنطقية وإشراك العقل والعاطفة، لقد كانت لكل واحدة منهن قصتها الخاصة عن العنف الذي تعرّضت له، ممّا أبرز تنوّع شخصياتهن، بين أكثرهن تطرفًا ورغبة في الانتقام، مثل سالومي (كلير فوي) وميريكا (جيسي باكلي)، وأكثرهن اعتدالًا، مثل أونا (روني مارا)، فلكل امرأة منهن منظورها الخاص. انصهرت تلك النسوة بعضهن ببعض، حتى أصبحن كامرأة واحدة غاضبة، لكن حكيمة وعاطفية، في الوقت نفسه يملؤها الرجاء بالمستقبل، وبالأطفال الذين سينشؤون بعيدًا عن المستعمرة.
لم تحدد سارة بولي مكانًا لفيلمها، لكنّها أعطت زمنًا معيّنًا من خلال مرور سيارة تذيع عبر مكبّرات الصوت ضرورة حضور أهل المستعمرة لإحصاء عام 2010. ما أرادته سارة بولي من ذلك، أن تشير إلى أنّ هكذا وقائع تحدث في كل مكان وزمان، فالعنف ضد النساء لا يظهر منه إلّا رأس الجليد وما خفي كان أعظم، أكان ذلك العنف قائمًا على حجج دينية أو اقتصادية أو تنطلق من افتراض تفوّق الذكر على الأنثى. الأمر الثاني، لم ترنا سارة بولي وجوه الرجال المعتدين، وكأنّها تمسح وجودهم، فهم لا يستحقون ذكرًا في تاريخ فيلمها، ولا التاريخ بشكل عام. بينما أعطت إلى أوغست الرجل الوحيد في المستعمرة إدارة الجلسات، وحتى الاحتفاظ بها؛ دلالة على أنّ الرجل الذي يستحق أن يوجد، يجب أن يكون شبيه أوغست بفكره وعطفه ومحبته. وخاصة عندما عرض على أونا الفتاة المغتصبة حبه، ورغبتها بالعناية بطفلها القادم.
لم تثر النساء على الدين، بل ثرن على التفسيرات السيئة له من قبل الرجال. لذلك عندما ناقشن خروجهن، بأنّه سيمنع عنهن الجنة، فالمرأة لا تدخل الجنة إلّا برضا زوجها، اعترضن على ذلك، فالله لن يقبل بهذا الظلم. تصوّر لنا سارة بولي خروجهن من المستمرة بشكل أشبه بخروج بني إسرائيل من مصر. وفي هذا المشهد كان النساء هنّ شعب الله المختار، والرجال هم الفراعنة.
إنّ نسوة سارة بولي في فيلمها، ونسوة ميريام تويز في روايتها، قد أجبن على كوجيتو هاملت: (تكون أو لا تكون؛ هذا هو السؤال). حصل الفيلم على جائزة أوسكار أحسن سيناريو مقتبس.