طالب كاظم
بغداد. ما بعد ظهيرة يوم السبت خريف عام 1976. شارع الرشيد. كازينو البرازيليّة.
محاولاتك في إخفاء توترك أخفقت، حين تخلّصت من سيجارتك بعد لحظات قصيرة من إشعالها في مرمدة الكريستال، شاهدت قسمات وجهك، بدت متجهمة الى حدٍّ ما، وهي تنحت بصمت تقاطيعك الحانقة، كانت أصابعك ترتجف وانت تسحقين السيجارة الهزيلة التي تفتت في قعر المرمدة، كما لو كنت تتخلصين من أحدهم بسحقه، شعرت برغبتك في الصراخ عندما كتمت نشيجك وبحزنك العميق وألمك الممض، وهو يتسلق قلبك كحلزون لزج. كيف عرفت ذلك؟! الأمر لا يتطلب معجزة، كيما أدرك الانفعالات التي تتصاعد في جوفك، يمكنني قراءة عينيك الغائمتين، جفونك التي تلطخت ببقع كحل مبلل بدموع لم تغادر مقلتيك، عرت مشاعرك، تحاولين الهروب من نظرات الآخرين وتساؤلاتهم، موهت غضبك بالهروب من انفعالاتك بأحكام غلق أزرار معطفك الاسود القصير وانت تصالبين ساقيك تحت الطاولة المستديرة، بينما النادل ببدلته السوداء وقميصه الابيض يضع كوب القهوة بهدوء وابتسامة ترحيب خفيفة على شفتيه، سمعتك تقولين له شكرًا، ردَّ النادل تحيتك بانحناءة رقيقة وهو ينظر في عينيك الواسعتين للحظات قصيرة جدًا قبل أن يهم بالانصراف مبتعدًا.
كانت الساعة تشير الى الثالثة، غيوم شتاء مبكرة اخذت تتلبّد ببطء في سماء رماديَّة، بدت الطرقات خالية، كنت أجلس قبالتك، لست بعيدًا عن طاولتك حدَّ يمكنني عد أنفاسك وشم عطرك الخفيف، عطر يشبه الخريف وأزاهير الربيع، الصنوبر والياسمين ورائحة الأنوثة.
اعتدت رؤيتك في المكان نفسه، بالأحرى كنت انتظرك بصبر لا ينفد، لم أجرؤ على سؤال النادل الكهل عن توقيتاتك، مواعيد دخولك ومغادرتك الكازينو، المرة الاولى التي شاهدتك فيها كانت في بداية خريف العام الماضي، كانت الساعة الواحدة ما بعد ظهر يوم سبت، وهو اليوم الاول الذي ادخل فيه كازينو البرازيلية، بعد أن جذبتني اليها رائحة القهوة التي نفذت الى خياشيمي، جلست قرب الواجهة الزجاجيّة، أهدر وقتي في التطلع الى المارة الذين يسلكون شارع الرشيد الى وجهاتهم، فتيات مسرعات بتنورات قصيرة، رجال ونساء يتفادون المطر بمظلات سوداء، زعيق السيارات الفخمة التي تجوب الشارع المزدحم ببطء، أنت تشبهينني عندما ألوذ بالعزلة أتطلع الى كوب القهوة الساخنة وقدح الماء الزجاجي، انفرادك بنفسك يمنحك وقتا هادئا للتأمل، وهو الامر الذي أجيده، في لحظات التأمل تلك، رأيتك تدخلين الكازينو، بفستانك القصير الى حدٍّ ما، فهو يظهر ساقيك الممتلئتين بجورب اسود شفاف، بحذاء كعب عالٍ أسود لامع تلفين قوامك بجاكيت قصير أزرق، يبرز نحول خصرك، واستدارة وركك وقميص بلون سماء مشرقة ضيق يظهر تمرّد نهديك، بسلسلة ذهبيّة رفيعة تنهي بقلب لازورد ينام في أخدود بلون الحليب والعسل، في الحقيقة باغتني طغيانك، فانت لا تشبهين أي امرأة أخرى، خطواتك المتمهلة وانت تتجهين صوب طاولتك، طوال السنة التي تابعتك فيها، اعتدت طقوسك، لا شيء يحدث مصادفة، كل ما تقومين به اعد له جيدا، لم تستبدلي طاولتك بمكان اخر في صالة الكازينو الكبيرة ولا القهوة التي اعتدت تناولها، ولكن كيف لي ان اخبرك بأني شعرت بالانقباض يداهمني حين دخلت الكازينو، على غير عادتي، متأخرًا، حين وجدتك تتبادلين حديثا هامسا مع رجل في منتصف عقده الرابع، قلت لنفسي، وانا اخفق في قراءة شفاهك، إنها حياتك الخاصة، فانا لا اعرف اسمك ولا اعرف اي شيء عن حياتك، نحن غرباء ليس الا، نجلس بصمت، نتأمل وجوه العابرين الى وجهتهم عبر الواجهة الزجاجية الكبيرة، نتناول القهوة البرازيلية الساخنة برشفات صغيرة، ولكني لم أقاوم الشعور الممض بالغيرة التي اخذت تقضم مشاعري، في ليالٍ عديدة مرت عليَّ، هناك شيء يشبه الأرق، يعترض طريقي بصور متلاحقة تتدفّق في ذاكرتي، صورتك وأنت تتبادلين حديثا هامسا معه، ولكن لما كل هذا الألم؟ فانا لم أبادلها كلمة واحدة باستثناء مرة واحدة التقت فيها نظراتنا حينما تقاطعت خطواتنا، للحظة مرقت كبرق، تحولت فيها الى هيكل من حجر وتلعثم حينما تسللت نظراتك عبر حدقتي، شعرت بك تهربين من تساؤلات عيني، حين مددت اصابعك في علبة التبغ، تستلين سيجارة رفيعة بلون ابيض، اطبقت عليها بشفتيك الحمراوين، كل شيء تقومين به يبدو مصممًا على ان يكون متكاملا ومدهشا، ولاعتك الكلاسيكية، بشعلتها الزرقاء، توقد طرف لفافة التبغ، بين طرفي سبابتك واصبعك الاوسط الطويل، تتصاعد دوامات دخان ازرق في الفضاء المغلق، بينما اصابع يدك اليسرى تبعد خصلات شعرك خلف اذنك، اواجه نفسي في مساءات العزلة بالأسئلة ذاتها بينما القلق يفتك باتزاني، هل هو الحب الذي يدفعني يوما بعد آخر الى انتظارها وترقب دخولها عبر البوابة المشرعة على رصيف الطريق الضيق، ولكن كيف للحب أن يتسلل إليَّ؟ والرجل في منتصف عقده الرابع الذي التقت به في ظهيرة يوم خريفي. عام مضى، لماذا كلما فكرت بمحاولة اقتحام طاولتها، يجف فمي.
أكاد أرى شحوب وجهي وانا اتخيل نفسي اقف صامتا ومرتبكا قرب طاولتها، كانت في الثلاثين، لم تغير تصفيفة شعرها، اجدها أنيقة جدًا بملابسها الكلاسيكية، وبألوانها الغامقة التي تكشف بياض بشرتها المشوب بلون زهري خفيف، الوشاح الفيروزي الذي يحتضن عنقها، النظارة السوداء التي تغطي عينيها، صدرها وساقيها الممتلئتين في جورب اسود شفاف، حقيبتها الجلدية، وحزمة الاوراق التي تنثرها على الطاولة، انشغالها عن الآخرين. يمضي وقتها الذي يستغرق ساعتين في الكتابة، يوما بعد آخر، انتظر دخولها الكازينو بقلق يجرف تفكيري، لم أكن أبالي بمراقبة أي امرأة، بالأحرى لم تشغلني اي امرأة أخرى كما شغلتني هي المرأة التي تجلس وحيدة في المكان المعتاد نفسه وتمارس الطقوس المعتادة نفسها، الاوراق المتناثرة على الطاولة الصغيرة، كوب القهوة والرشفات القصيرة كأنّها كانت تتذوق فحسب.. وانهماكها في الكتابة غير عابئة بنظرات الآخرين الذين يرمقونها بنظراتهم
المتسائلة.