علي العقباني
وفي رواية أخرى أنه ثمة مسرحيون سوريون شبان يقتلون الهزيمة واليأس بالحب والمسرح والجمال، وفي رواية أخرى أنهم خرجوا عن النص وقالوا للواقع المرير وقسوة العيش وضيق السبل والحلم والحياة، نحنا هنا نصنع مسرحاً للحياة، بعرق وتعب وجهد ونضج وشغف.
كثيراً ما تطالعنا كتب التاريخ أو المذكرات بتلك العبارة «وفي رواية أخرى» لإعطاء الواقعة مصداقية القول من شخصيات ورؤى عدة، ربما أنها هنا في المسرحية تنحو شخصيات المسرحية التي كتبها كاتب مسرحي مهزوز نفسياً واجتماعياً وابداعياً، للخروج عن النص ومجابهة كاتبها بحقائق ووقائع مختلفة، تعريه أمام نفسه، فيضطر إلى قتلها الواحدة تلو الأخرى، للتخلص من هذا التمرّد المفاجئ، فهو لم يعتد على تمرّد شخصياته عليه إنّها على الدوام كائنات ورقيَّة تحت السيطرة وتفعل ما يُطلب منها دونما اعتراض.
مسرحية «في رواية أخرى» عن نص للكتابة لوتس مسعود صاحبة العديد من التجارب السينمائية والمسرحية وإخراج كفاح الخوص صاحب الكثير من التجارب المسرحية والتلفزيونية والسينمائية المميزة حيث لاقت اعماله المسرحيَّة اهتماماً نقدياً وجماهيرياً كبيراً، والتي تعرض على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، رواية مسرحية فيها الكثير من المتعة والمسرحة المشوقة والأسئلة والحب والتجريب والتمثيل العالي المستوى (أمانة والي، مرح حجاز، علي اسماعيل، وئام الخوص، نوار سعد الدين، سليمان رزق، كفاح الخوص، وتأليف موسيقي مميز للموسيقار طاهر مامللي) جهد بالغ الثراء والعطاء تكلل بعرض لافت موضوعاً ومشهدية مفتوحاً على مسارات فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة متعددة ومسرحيَّة أيضاً.
بتلك الرؤى والتطلعات المسرحية المحتفلة ندخل عرض “في رواية أخرى” حيث السخرية والوجع في أعلى مستوياته الدرامية إذ تحاكم الشخصيات الروائية مبدعها بكل ما تعنيه كلمة محاكمة من معنى، إنها تخرج عن السيطرة تجبره على الاعتراف وتتخلص من وضعيتها التي اقرها لها بين دفتي كتاب، وهو المهزوز القلق قليل الحيلة، افتراض مسرحي ودرامي يفتح آفاقاً واسعة للتأويلات واللعب المسرحي والأداء التمثيلي المنفلت من عباءة النمط والتكرار والسطحيَّة، إذ تملك كل شخصية من تلك الشخصيات مفتاحاً خاصاً لمحاكمة كاتبها، وحين تصل الحوارات إلى أمكنة مفتوحة على احتمالات عديدة يقتلها المؤلف، وهكذا تتمرّد الشخصيات على مبدعها ويعود ليقتلها، ومن ثم يقتل نفسه منتحراً في بانيو الحمام، وفي “رواية أخرى” ربما قتلته شخصياته التي اعتقد انها دائماً داخل مجال السيطرة والخضوع.
“في رواية أُخرى” عرض مسرحي يمتلك عناصر الامتاع والأسئلة والمساءلة والدهشة والذهاب عميقاً في تحولات الأحداث التي تتواتر بسرعة، شخصيات ترفض قولبتها وسكناها داخل دفتي كتاب وربما داخل رأس مبدعها، تخرج عن سيطرة كاتبها، انها تريد رسم حياتها خارج صندوق أو دفتي كتاب صنعته مخيلة رجل مريض غير قادر على اكمال عمل، تريد تغيير مسار حياتها وربما الأحداث كما رسمها كاتبها أو صانعها، إنه سؤال الخلق والابداع والمسرح والفن عموماً، سؤال الحياة وقد تمرد البشر على صانعيهم في محاولة رسم مسار خاص لحياتهم وخيار آخر للعيش حتى لو تطلب الأمر موت مؤلفهم أو موتهم، محاكمة تذهب باحتمالات التأويل نحو مسارات متعددة وتأويلات كثيرة تتيح للمتفرج قراءة العرض بمستويات كثيرة، وإذ تفتح العرض على الزوجة “ديالا، مرح حجاز” المستاءة من زوجها الكاتب “جبران، كفاح الخوص”، الكاتب الذي يعيش خواءً روحياً وجسدياً وابداعياً ويعاني مشكلات مالية وحياتية تتصاعد من الكتابة إلى البيت إلى العيش وتأمين ايجار البيت لصاحبته “مدام ايفون، أماني والي” في أداء لافت ونبرة صوت وإيحاء يليق بسيدة مسرح وقفت على خشباته عمراً، ديكور يملأ خشبة المسرح من يمينه إلى يساره وعمقه، حيث مدخل البيت والبيراندا على اليسار وفي الداخل المطبخ والصالون وغرفة النوم والحمام في أقصى اليمين، مع ترك مساحة أمامية فارغة للحركة واللعب المسرحي، بيت بكامل محتوياته وتفاصيله، تفصله إضاءة خافتة متبدلة تترافق مع الأحداث وتصاعدها، وحين تبدأ الشخصيات بالظهور والاستنكار لحالها ووجودها والمطالبة بالتغيير، تغيير حالتها ومحيطها وتشكيلها وتحاجج مبدعها في كل تفصيل، يريدون كتابة روايتهم الخاصة، تاريخهم الخاص، حياتهم، وموتهم كما يشاؤون.
تخرج الزوجة من البيت بعد نقاش طويل مع الزوج يخبرنا ما طبيعة تلك الشخصيات وأي فكر تحمل وكيف تتعامل مع الحياة والابداع والناس، كاتب غارق في ذاتيته وعقده وأمراضه، بعد خروج صاحبة البيت التي تمهله 3 أيام لدفع إيجار البيت، تمهيد يفتح الأفق لظهور الشخصيات واحدة تلو الأخرى، فيأتي “حشكو، علي إسماعيل” ثم” موكس، سليمان رزق”، ثم الراقصة” شوشي، وئام الخوص” في دور قلما نشاهده على خشبة مسارحنا وفي أداء لافت، ثم الطبيب” سعيد، نوار سعد الدين”، شخصيات تحتاج كثيراً من الكتابة عن اشتغالها التمثيلي لا تسمح به مساحة الكتابة هنا، وان أُخذ على بعضها المبالغة في الأداء الحركي، لكننا هنا أمام مجموعة شابة تنثر الضوء والحياة في المسرح وتطرح أسئلة كثيرة مغايرة وشائقة وملحة في آن، ساعة ونصف من المسرح والإمتاع والدهشة والحب والجمال المبهر.