{الخزنة} رواية توثّق وجع وصمود الأسير الفلسطيني

ثقافة 2023/10/10
...

  حربي محسن عبدالله

(لا أعرف أي حدثاً يمكن أن أعتبره الأهم في حياتي داخل الأسر، أو إذا كانت هناك أحداث يمكن اعتبارها مهمة. أو أهم من غيرها، في حياة رتيبة، محدودة الحركات، ومحصورة بين أربعة جدران. هل تكون اللحظة التي لامست النسمات الباردة التي تسبق انبثاق الفجر، وتسلل خيوط الشمس الجليلة الدافئة والواهنة إلى وجهي. كيف أصف سحر تلك النسمات التي كانت تغسل وجهي المعفر بالتراب.
عندما أطللت به لأول مرة من فتحة النفق الضيقة؟ وهل هذه اللحظة جزءٌ من حياة السجن أم خارجه؟).
بهذه الكلمات يأخذنا الأسير الفلسطيني المحرر "عصمت منصور"، بعد عشرين عاما قضاها في سجون الاحتلال الإسرائيلي، في روايته "الخزنة"- رواية الحب والحرية، الصادرة عن دار طباق في رام الله – فلسطين، بكلماته الآسرة المحمّلة بالوجع الفلسطيني، وبإرادة المقاومة وإرادة الحياة والحرية والحب.
فعلى الرغم من المعاناة التي يواجهها الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن المعايشة اليومية للقهر والقسوة في ظل احتلال لا يعرف الرحمة، ويمارس شتّى أنواع التعذيب والعقوبات النفسية والجسدية بحق الأسرى، تخلق نسيجاً من العلاقات الإنسانية المتميّزة التي تجمع المعتقلين وتؤلف بين قلوبهم، ما يسهم في إيجاد جو خصب متميّز تنمو فيه إبداعاتهم وتتطوّر، لتبني طرازاً ذا نكهة فريدة تنسجها اللحظات التأملية، التي يحياها السجين بعيداً عن أهله وأحبته، بل بعيداً عن الحياة الطبيعية لأي إنسان على وجه المعمورة.
من الأساليب التي سعى الاحتلال "الإسرائيلي" لممارستها على المعتقلين الفلسطينيين، لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة مشوّهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد وتطويعه وفق إرادتها؛ لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية؛ بل على كل وسيلة ثقافية؛ حتى الورقة والقلم والكتاب؛ فكان لا بد للمعتقلين من إيجاد وسيلة للتغلب على مشكلة الورقة والقلم؛ فعملوا على تهريب أدوات الكتابة من خلال زيارات الأهل؛ أو عن طريق المحامين؛ كما استفادوا من مواسير الأقلام، التي كانت توزع بينهم، لكي يكتبوا رسائل لذويهم مرة في الشهر؛ وكان لا بد من إخفاء إحدى المواسير وتحمّل تبعات ذلك من عقاب جماعي، ومن ثم استخدموا هذه الماسورة في كتابة ما يريدون؛ وبالطريقة نفسها تمكنوا من توفير الورق.
كما استخدم المعتقلون مغلفات اللبنة والزبدة بعد غسلها وتجفيفها للكتابة عليها.
واستمرت سياسة الحصار الثقافي والفكري من عام 1967 وحتى عام 1970؛ حيث أدرك المعتقلون خطورة الوضع الذي يعيشون فيه، وأحسّوا بالفراغ الفكري والثقافي، تحت ضغط عدم تواصلهم مع العالم الخارجي، فهم في عزلة مقصودة ومبرمجة.
ما حدا بهم إلى المطالبة بإلحاح ومثابرة بإدخال مواد ثقافية من كتب وصحف ودفاتر
وأقلام.
وكانت إدارة السجون الإسرائيلية تماطل في تنفيذ مطالب المعتقلين؛ متذرعة بأسباب عدة؛ لكن هذه المماطلة لم تثبط عزائم المعتقلين.
فخاض السجناء غمار عدة ميادين كالاحتجاج المباشر، والإضراب عن الطعام، والاتصال بالصليب الأحمر الدولي؛ الأمر الذي جعل إدارة السجون ترضخ في النهاية لمطالبهم، خصوصاً بعد الإضراب الكبير الذي عمّ المعتقلات في عام 1970؛ فقد اضطرت سلطات السجون إلى السماح بإدخال الكتب والصحف والدفاتر والأقلام من خلال الصليب الأحمر؛ إلا أنها وضعت قيوداً على ذلك تمثلت في: إخضاع المواد المكتوبة للرقابة والتدقيق والفحص الأمني، وتحديد نوعية الكتب المسموح بإدخالها، وتحديد كمية الأقلام والورق؛ وأخيراً فرضت على كل معتقل ألّا يقتني أكثر من كتاب واحد؛ وفي حالات كثيرة كانت تقوم سلطات السجون باقتحام غرف المعتقلين ومصادرة الكتب والدفاتر والأقلام كعقاب لهم.
ورغم كل هذه الإجراءات والممارسات القمعية التي تمارس ضدهم، إلا أنهم تمكنوا بقوة الإرادة والصمود من إنتاج أدب متميّز، حمل بصمات التجربة التي عايشوها.
ولم تأت التجربة الإبداعية للمعتقلين دفعة واحدة؛ بل مرّت بعدة مراحل صقلتها فغدت جوهرة فريدة أثبتت حضورها ومكانتها في المشهد الأدبي الفلسطيني.
 رواية " الخزنة" من الروايات التي تسجّل لحظة الانتقال من اليأس الذي يدفع إليه العدو الإسرائيلي لتحطيم معنويات الفلسطيني وقتل إرادة الحياة فيه، إلى اللحظة التي يقرر فيها الهرب من السجن، إلى الحياة، "إن اللحظة التي نتّخذ فيها هذا القرار الذي لا نعود بعده كما كنّا قبله هي الأهم.
وكلّ ما سيتبعها لن يعدو كونه ترجمة له وتدرّباً على التعوّد على ذاتك الجديدة.
فقط في تلك اللحظة التي قررت فيها أن أهرب من السجن، وأن أتحدّى بأناملي العارية الضعيفة، جدران الخزنة الفولاذية المطلية بالاسمنت.
شعرت أنني تحررت حقاً.
كل شيء يبدأ من داخل الإنسان وينتظر قراره، الذي إذا ما تأخر، أو تخاذل في اتخاذه، سيبقى بقية عمره يشعر بأنّه أسقط شيئاً ما لا يمكن استعادته أو تعويضه، سيشعر في ما تبقى من حياته أنه عاش معاقاً دون أن
ينتبه.
قد اسقط شهيداً، أو أصبح مغامراً هارباً طوال عمري، وقد يعيدونني إلى الزنزانة "الخزنة" مقيّداً ومثخناً بالجراح، وآثار الهراوات واللكمات تُلوّن جلدي الأسمر، إلا أنني سأكون دوماً حراً، وهذا فقط ما يمكنه
أن يبقيني على قيادة الحياة".
هكذا يصف الكاتب على لسان أحد أبطال الرواية اللحظات الحاسمة في حياة التحدي اليومي، التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون، وينتقل من موضوع الهرب تجاه الحرية إلى موضوع الإضراب عن الطعام أو حرب الأمعاء الخاوية، والطرق البشعة التي يمارسها الإسرائيلي، الذي يستعين بخبراء وعلماء نفس، ويستخدم التعذيب والموسيقى الصاخبة وحرمان الأسرى من النوم في محاولة منه، لكسر صمودهم وعزيمتهم، ليكونوا فريسة لليأس
والإحباط.
يصف لنا كاتب الرواية "عصمت منصور" حياة عاشها هو شخصياً، والتقى شخصيات روايته في معتقلات العدو الإسرائيلي، كما يصف لنا إرادة الحياة والتحدّي التي يعيشها الأسرى.
ويكتب لنا بلغة محمّلة بكل الطاقات الإيجابية رغم العذابات والآلام، التي يتعايش معها الأسرى.
رواية الخزنة هي رواية لحكايات وقصص الهرب من السجن التي بقدر ما تجذب وتوحي وتلهم، بقدر ما تدخل في النفس الرهبة، لا يقدم عليها إلا من جُبل من مادة خاصة، ونذر روحه وجسده للقادم الغامض والخفيّ، الذي يشدّه بخيط سريّ نحو عوالم غير مكتشفة، لا تدعو إليها إلا القلة الشبيهة بالقديسين، الذين لا يمكنك تمييزهم، والتعرف عليهم إلا بعد
صلبهم.
" الخزنة" رواية عن الحرية والجوع وإرادة الحياة ومواجهة الذات بكل ضعفها وقوتها.
والتحديات الكبرى التي تضعها الأقدار أمام من يرفض الاستسلام ويصارع حتى الرمق الأخير.