تنتمي الأمثال الشعبيّة لذخيرةٍ سوسيوثقافيةٍ حيّةٍ تعبّر عن طبيعة العقل الموروثيّ الشعبيّ من حيث الرؤية والمنهج وطبيعة التفكير، وتكون مادة ثريّة لعلم اجتماع الثقافة تُؤسَّس على متنها قاعدة معرفيّة بالغة الأهميّة لتفكيك العقل وتحليل معطياته وتجلّياته، وهي مادّة أصيلة في هذا المضمار لأنّها تنتمي إلى جوهر النسيج العقليّ الذهنيّ والمزاجيّ والسلوكيّ للإنسان، وينبغي الانتباه لهذه المادّة الحيويّة ومقاربتها ومعالجتها معرفيّاً على المستويات كافّة حتى نعرف اتجاهات بوصلة التركيب العقليّ وتطوّر بنياته وتمثّلاته.
ثمّة مثل شعبيّ عربيّ واسع الانتشار يُتداوَل على نطاق كثيف باللهجة الشعبيّة القريبة من الفصحى، ويمكن تفصيحه ببساطة على النحو الآتي: ((الديكُ الفصيحُ وهو في البيضة يصيحُ)) إذ يقدّم المثلُ مجموعةً من الوحدات اللغويّة المؤلِّفة لها ابتداءً من الخبر المفرد المذكّر (الديك)، وصفته (الفصيح)، ثمّ المستقرّ المكانيّ له (البيضة)، وأخيراً الفعل الذي يحرّك فضاء المثل ويصنع دلالته ومعناه
وبلاغته.
يتّجه تحليل بنية المثل وتفكيك مقولته الرمزيّة البلاغيّة نحو وحدتين مركزيّتين متداخلتين على نحو نسيجيّ متقن، الأولى هي (فصاحة الديك) والثانية هي (الصوت المبكّر)، وهما على علاقة وثيقة ببعضهما من حيث ارتباط الصوت بالفصاحة في مدوّنة الثقافة اللغويّة العربيّة المتعلّقة باللغة الفصحى، وهي تقوم في درجة تركيبيّة من درجاتها على موضوع (الصوت) الذي يكشف عن مستويات عديدة للفصاحة في هذا السياق، والفصاحة تعني إتقان المهارات الأساسيّة للتحدّث بلغة صافية صحيحة لا تشوبها شائبة على مستويات الصوت والنحو والدلالة، وأيّ خلل في استخدام هذه الأدوات يربك المتحدّثَ والحديثَ ومهمّةَ إيصال الفكر إلى جمهور المتلقّين فيما يصطلح عليه (اللحن)، أي الوقوع في المحظور اللغويّ الذي يكشف عن عدم فصاحة المتحدّث وعدم إتقانه لقواعد اللغة وقوانينها
وأعرافها.
الخروج الى العلن
تمثّل (البيضة) السجن الذي يتعرّض للتحطيم بفعل الصوت الفصيح الذي يتردّد في أرجائه ويريد الخروج للتعبير عن ذاته والإفصاح عن ذكوريّته الديكيّة، إذ يستحيل معرفة هذه الفصاحة والتأكّد من ذكوريّتها من غير مغادرة السجن بالصوت الفصيح بعد أن يصل درجة الصياح، على الرغم من أنّ المثل يوحي بأنّ الصياح ينبثق داخل السجن وقبل خروجه من البيضة كي يكتسب البراعة المطلوبة، لكنّ المسكوت عنه السيميائيّ في المثل يتجسّد في قدرة صوت الصياح على كسر قشرة البيضة والخروج إلى العلن بالفصاحة
المطلوبة.
تتجلّى الكثير من معاني الموهبة في هذا المضمار بوصفها طاقة استثنائيّة خلاقة تحطّ في الذات المخلوقة (الديك/الرجل) قبل ولادتها، وتسهم لاحقاً في عمليات التحوّل من حال إلى حال أخرى، من حالة الكمون نحو حالة الإفصاح، ومن حالة الغياب إلى حالة الحضور، ومن حالة التكتّم إلى حالة الإعلان، وهي في أصل وجودها لدى المخلوق إنّما تعمل على صوغ شخصيّته على نحو فريد ومميّز ومختلف
، ولعلّ من آيات الموهبة أنّها تعلن عن نفسها مبكّراً بحيث تبرز عند الموهوب خارج الوقت الطبيعيّ الذي يسمح له بالتفوّق
والإبداع.
هل الفصاحة يا تُرى من حصّة الذكور فقط كي يشير المثل إلى (الديك) الذكر من دون (الدجاجة) الأنثى؟ سيكون الجواب حتماً: (نعم!) بالتأكيد لأنّ العقل العربيّ عقل ذكوريّ على امتداد تاريخه المشبع بالمذكّر، يحيل على ذاته كلّ معاني الفحولة والذكورة والبطولة والإقدام والموهبة والإبداع، فذكوريّة الديك إنّما تؤكّد ذكوريّة الذهنيّة العربيّة وهي ترهن صفة (الفصاحة) ومن ثمّ صفة (الصياح) بالذكر، وعليه فإنّ (الدجاجة) الأنثى حين تكون في البيضة ليس بوسعها الصياح لأنّها لا تتحلّى بالفصاحة المطلوبة كي يتسنّى لها الصياح، فصوتها يقال له (الزَّقيّة) في حين يسمّى صوت صياح الديك (الصقيع) ولعلّ الفرق الصوتيّ والدلاليّ ممّا لا يحتاج إلى تفسير أو توضيح، فالصقيع يتراءى من جوف البيضة قبل كسر قشرتها وخروج الديك ديكاً نحو الفضاء الخارجيّ والزقّاء صوت أنثويّ لا يظهر إلا حين تتحطّم قشرة البيضة بفعل النضج الطبيعيّ كي يخرج إلى العلن بهدوء وغنجٍ ونعومة، وإذا ما تجرأت الدجاجة يوماً ما لتصيح صياح الديك فحقّ عليها الذبح في قانون الذكورة العربيّ لأنّ ذلك إنذار بوقوع كارثة قريبة لا تُبقي ولا تَذر.
علم البيان
يحقّق هذا المثل على المستوى البلاغيّ في التعبير ما يُصطلح عليه في علم البيان (الكناية)، وهو فنّ بلاغيّ كثير التداول في الكلام العربيّ الشعريّ والسرديّ، والكناية في هذا المثل تتحدّث عن الموهوب الذي سرعان ما يكشف عن موهبته في أوّل مناسبة متاحة وممكنة كي يعلن عن تميّزه وفرداته بوساطة الموهبة
، وهو يضرب في مثل هذه المناسبات لتوكيد موهبة طفل معيّن يأتي بعمل إبداعيّ خلاق لا يناسب عمره. والموهبة في هذا السياق هي علامة دالّة تفرض على صاحبها الإعلان عنها ولا تتلبّث طويلاً في منطقة الكمون والانتظار، وتنطوي على فعل خلاق يخترق الحُجُب ويكفّ الظلمة عن طريقه كي يعمل في دائرة النور
المطلق.
أمّا الفصاحة فهي مصطلح عربيّ قد لا يخصّ اللغات الأخرى التي لا تعاني من مشكلة الإعراب ووجود لغة فصيحة ولهجات محليّة بينهما فارق شاسع على مستوى التعبير والتدليل، على الرغم من أنّ المعنى العام لها قد لا يتوقّف عند حدود اللغة بل يشمل ممارسات حيويّة إنسانيّة مختلفة ولاسيّما إذا ما انسقنا وراء المعنى البلاغيّ الجماليّ لها، إذ إنّ الفصاحة نادرة وتحتاج لمقومات استثنائية لضبطها على مستوى معرفة أدوات اللغة نظرياً وإجرائياً وتداولياً بما يعكس سلاسة الحديث وصحّته معاً، فضلاً عن اللياقة الأسلوبيّة التي يجب أن يتمتّع بها المتحدّث كي تبلغ الفصاحة أعلى قمّة من قممها، من دون أيّ تلكؤ أو ضعف أو ارتباك أو قلق في أثناء الحديث أو التشكيل يؤدي إلى مصطلح مرافق للفصاحة هو مصطلح (اللحن)، واللحن هو الوقوع في الخطأ في أثناء التعبير عن الفكرة وهو الأكثر شيوعاً في المساحة الاجتماعيّة الأوسع التي تتحدّث اللغة بلا عناية كافية لما يجب أن تتمتّع به من
فصاحة.
وفي استقراء تفصيليّ للبنية اللسانيّة للمثل يمكن النظر إلى دالّ الصياح بدلالة يتجاوز فيها الدالّ المعنى التقليديّ الطبيعيّ للصوت، وهو يعبّر عن عدم القدرة على احتمال ما يملك كي ينفتح على مجال أوسع يستوعب طاقته الكامنة التي تحتاج إلى أفق آخر للبرهنة على فصاحته المبكرة، وهذا المفصل الحكائيّ في المثل هو جوهر المقولة المَثَليّة التي يشتغل عليها المثل كي يحقّق هذا القدر العالي من التداول والعناية والانتشار والقيمة التدليليّة تلميحاً وتصريحاً.