عيدان الشيخلي.. نصوص الواقع ومرويَّات النحت
د.جواد الزيدي
لا يمكن عزل المرجعيات الأولى لأيِّ فنان سواء كانت بيئيَّة أو تقنيَّة، إذ ستترك أثرها لاحقاً على تجربته بشكل مباشر، أو غير مباشر، لكن يُمكن تحسس هذا الأثر في جوهر الاشتغال من قبل النقّاد والمتخصصين. ولهذا فإنّ تجربة النحّات عيدان الشيخلي تقع ضمن هذا التصور في ضوء تخصصه وانشغالاته وبيئته الشعبيَّة التي ألقت بظلالها على جوهر التجربة، حيث اتجه الى التراث البيئي بمحمولاته كافة لتوظيفه داخل الفضاء النحتي على مستوى الموضوعات والمضامين، أو على مستوى الخامات، مما منح خطابه ذلك النماء والثراء على هذه المستويات، عامداً الى اختراق القوالب النحتيَّة التي كانت معتمدة من أجل المفارق والمغاير الذي يصبُّ في خانة التجريب المستمر على كل ما يدخل ضمن العمل النحتي. التجريب على الخامة، وكيفيَّة تشكلها على مستوى الموضوعات المطروحة والمعلنة، وبعدها حاول جاهداً البحث المخلص عن القطيعة مع النمطيَّة القوالبيَّة، فكان سعيه يصبُّ في تجاوز الواقع في أغلب أعماله النحتيَّة التي تنزع الى التركيبيَّة أكثر من تصنيفها التقني المنضبط، حيث استخدم فيها الكثير من الخامات الداخلة في تكوين تلك الأعمال النحتيَّة على وفق تقنيات متعددة.
لقد بدأت توجهاته الحقيقيَّة لفن النحت منذ دخوله معهد الفنون الجميلة ببغداد العام 1957 وتكريس الهوايات الأولى التي أضحت في ما بعد مهنته التخصصيَّة وكل اهتماماته، وعلى الرغم من المرجعيات المحليَّة الماثلة في وجدانه، إلا أن سفره الى انكتلرا ودراسته في مدرسة تشلسي ومن ثمّ المدرسة المركزية للفنون في لندن كان له الأثر البالغ في تتبع الطرق الابداعيَّة في النحت والصب، الذي أصبحت ميزته الخاصة في هذا الحقل الفني، إذ كانت لهذه الممارسة العملية في لحظة صراع الأساليب والرؤى أثرها في تجربته، فاِتّخذ من صب القوالب البرونزيَّة والنحاسيَّة أساساً تقنياً في مجمل اشتغالاته، بيد أنَّه دائما يحاول ترجيح الرؤية الذاتيَّة على ما تعلّمه انطلاقاً من متحف ذاكرته العراقي ومشاغل الواقع الشعبي الذي يرفده بعشرات الصور المخزونة والمحيطة به أيضاً في ضوء مشاهداته اليوميَّة. وكما كان للبيئة أثرها في تجربته، أثرت لندن وما تعلّمه فيها في خطابه النحتي، فجاءت منحوتاته (ما عدا التركيبيَّة) رشيقة وأنيقة ومختزلة من خلال حذف كلّ الشوائب الخارجيَّة منها، مستهدفاً مناطق التعبير القصوى في الشكل وعلاقته بالمرجع الذهني أكثر من الحسِّي الزائل
واللحظوي.
فمنذ معرضه الشخصي الأول العام 1966 وحتى معرضه الاستعادي العام 2001 تواصلاً مع ما بينهما من مشاركات جماعيّة داخل الوطن وخارجه، وما قبل ذلك أيضاً أزاء مشاركته العامين 1964، 1965 عندما كان طالباً للفن في انكلترا وتحديداً مدينة لندن وقاعاتها، اعتمد على التجريبيّة منهجاً ومنطلقاً للعديد من المغامرات الفنيّة، تجسّد ذلك واضحاً في البنية الشكلية لمجمل خطابه النحتي، واختيار التقنية المتعددة تلك التي أفرزت تنوعاً غريباً وغير مألوفٍ يتضاد مع ضفاف الأنماط التقليديّة وفضاءاتها الشائعة وعدم الاكتراث ببعض النماذج النحتيّة السائدة آنذاك. فالشيخلي دائم البحث عن خامات جديدة تلبي أغراضه الجماليَّة، وهو ما يزوّده بها المحيط الخارجي سواء كانت مهملة أو غير ذلك، ثم يبحث في الخامة ذاتها للتصعيد من طاقتها الجماليَّة، فجاءت أعماله التركيبيَّة مزيجاً من هذا المهمل مثل أدوات الفلاحة (الفأس، المسحاة، والمنجل) وغيرها ليصنع منها خطاباً جماليّاً يذكرنا بخطاب الدادائيَّة وغيرها من المدارس المعاصرة التي حاولت الإفادة من اليومي والمهمّش والمهمل. لذا تعددت خاماته (برونز، خشب، ألمنيوم، حديد، نحاس، فضة) وغيرها.
والشيخلي أيضاً غير معني بالتفاصيل والأجزاء، ويقرن موضوعه بالكليّة أو الشموليّة من حيث دلالة الايحاء أو جوهر التعبير المقترن بعوامل خارجيّة تحيط بالإنسان يمكن أن تُطرح على هيئة أسئلة وجوديَّة كبرى، فيعمد دائماً الى الاختزال لدرجة أن تفقد هذه الأشكال في أحيان كثيرة مصادرها الأساسيّة، الواقعيّة، أو الشيئيّة، يتمُّ هذا الفقدان والابتعاد عن الأُصول على وفق المعالجات الدقيقة التي يتبناها ويلجأ اليها وقد تتضمن توزيعاً هندسياً صارماً في تصيّر الشكل المرئي. إنَّ تجربته ومجمل خطابه النحتي تميّز بهذا التنوع الثر والنماء غير المنقطع في (الخامات والأشكال) ويمثل مقدرة كبيرة وغنية في التعامل معها أو زوايا النظر المختلفة في توظيفها على الرغم من وقوعها بين الظلال أحياناً في ما يخص الممارسة النقديَّة عليها وانسحاب الأضواء عنها.
وتوصف تجربته بالفرادة في ضوء التنوع والانشطار في الرؤية وطرائق الاشتغال التعبيري، فرؤيته الفنيَّة وخلقه ذائقيته الجماليَّة الخاصة أزاء تلقي أعماله الفنيّة لم ترتبط فقط بالنحت، بل تعدت ذلك الى تصاميم الحلي والمصغرات النحتية وغيرها. إذ إنها تجربة مثيرة حملت نتائج فنيّة وجماليّة مزدوجة بين التصميم والنحت، وتوصف بأنّها فضاءات مفتوحة للجميع من أجل قراءاتها وتأويل ما يكمن خلف الشكل الظاهري.
لقد حاول الشيخلي مع آخرين تأسيس قاعدة لزمن مقبل في لحظتها هو حاضرنا الآني تتنوّع فيه الأساليب وطرق المعالجة، ولكنها ستؤكد أنّها حافظت على بلورة اتجاه عام يرى أن الابتكار لا ينشأ إلا بقراءات ورؤية تأمليّة للقوانين الأكثر ديناميكيّة في فهم مسارات الفنون وجوهر تصيّرها الناتجة عن الحتميّات التاريخيّة والتراكمات المعرفيَّة والجماليَّة منذ الحضارات القديمة وحتى الفن المعاصر الذي يشي بالتجدد والازدهار في بعض لحظاته الزمنيَّة، وفي أغلب نماذجه المتحققة للعيان مع علامات مستعادة من متحف الفن القديم وايجاد هذه المقاربات الجماليَّة التي تفرضها الأغراض الجماليَّة والأُسلوبيَّة أحياناً، وليس السعي وراء محاكاة أكثر التجارب غرابةً، أو عزلةً، أو تطرّفاً، أو أكثر فنتازيا في الفنون الحديثة، بل التمسّك بجوهر الاشتغال وآليات التحديث التي يفرضها الراهن والتراكم النوعي للجنس الفني، وما يتصل بفلسفة الفن وارتباطها بالأنموذج الحياني والفاعليَّة الإنسانيَّة، والحفاظ على ما يعيد صياغته الفنان على وفق منطقه الجمالي ورؤيته للعالم الموضوعي أزاء عالم تتسارع فيه المعايير والنزعات والأساليب وتتغير أيضاً، وهو ما يشتغل عليه الشيخلي وجيله بخصوصيّة أعمال تتجاوز الفرضيات الجماليّة بفعل تصنيف الفن، بوصفه خطاباً موجهاً من أجل الفن وللفن نفسه، أو بوصفه معرفة مجتمعيّة تعمل على ترسيخ نزعة البناء، وصياغتها بدوافع يأخذ الفن مساحته الحقيقية فيها. فمدينته بغداد وحاراتها ونمط حياتها وواقعها المعيش لم تعد تاريخاً سردياً للمخفيات، أو المسكوت عنه في ممراتها السريّة، أو أطلالاً، بل مشروعٌ يصبح الفن فيه علامة للتجدد والابتكار، وانموذجاً لتخيل صورة أُخرى للمكان على صعيد المحيط الخارجي أو الذات الإنسانيّة التي تحيا وتعيش فيه وتبحث عن وجودها الحقيقي وسيرورتها المضيئة، وهذا الذي منح تجربة الشيخلي دوراً تجاوز حدود الحقبة الزمنيَّة وفاقها نحو معالجات جماليَّة أكثر رصانة وتعبيراً عن الخطاب النحتي
العراقي الناشئ آنذاك.
ومثلما تنوّعت تقنياته وخاماته، إتسعت دائرة توظيف الموجودات، بما يُغني الشكل النحتي ومضامينه التعبيريَّة. وبخلاف بعض الأعمال التجريديَّة التي شيَّدها من الحديد على أساس هندسي، فإنَّ المتبقي هو ملامسة حقيقيَّة لجوهر الحياة اليوميَّة، لكنّها تجلت بصيغ رمزيّة في ضوء مبدأ الحذف لكل ما يعيق عملية التعبير عن المضمون (نساء، ديك، أسرة، راقصة بالية، أدوات حراثة، مطارق، نخيل) ولكل من هذه الموجودات الشيئيّة قصة يرويها العمل النحتي حاول تنقية سطوحها الخارجيّة من أجل الوصول الى أعماقها الدفينة والمعاني المضمرة فيها، فتذكرنا منحوتة الرجل الذي يحمل عصاه ويرفعها الى الأعلى بنماذج جايكوميتي النحيلة، بيد أنّها تختلف في السحن والملامح التي تحيل الى عراقيته بالتأكيد، وتماثيل النساء المدورة التي تأتي مرة على هيئة راقصة بالية وفي أخرى ملفوفة بعباءتها وهي إحالة الى مرجعيتها الاجتماعيّة والأنساق التي تتحكّم بها، في حين تندمج مع آخريات لتكوين أسرة يبدو عليها فعل الترميز أكثر من المماثلة مع أشكال واقعيَّة، وهنا المراد هو صورة المرأة بمفهومها الانساني، وليس المناطقي المتعين بنسقية بيئية محددة. وهذا ليس كله فقد صنع من خامة الخشب أجمل أعماله أيضاً سواء كانت على هيئة أقنعة أو تماثيل نصفية، أو هياكل مقطوعة الرأس والأطراف خدمة للوظيفة الجمالية والتعبيرية الأخرى التي يجترحها لعمله الفني؛ لذا فإنَّ هذا التنوع والتعدد في الخامات وطرائق التعامل معها، فضلاً عن تعدد المرجعيات الجمالية منح تجربته إضافات نوعيّة تعدّ درساً مهماً في نشأة النحت العراقي وامتداداته في المناهج التعليميَّة والإبداعيَّة على
السواء.