د. لبيد المطلبي
"كل ما هو حرّ، هو جميل".. ماركس
قبل أن نتناول أعمال الفنان مرتضى الجصاني، بالتحليل، لا بد لنا أن نتطرّق لهذا الجنس الذي نطلق عليه فن الخط العربي، وما يشتمل عليه من مفاهيم تجعله متفرّدا في تشكيلاته، وأدواته الخاصة، وتأثيراته الجماليَّة، من جهة، وموضوعه، من جهة أخرى، إنه، ببساطة، شكل لمحتوى، يقوم بذاته، لا بوصفه وسيطا، أو مجرّد ناقل، ينتهي أثره حين يفرغ محتواه. كما أنه ليس تقنية منشغلة بتقطيع الكلمات إلى الحروف، ولا حالة تزيينيّة، وإنما هو جنسٌ فنيّ (جمالي)، له، كما لغيره من الفنون، تمفصلات تأريخيّة، شاهدها أنه اتجه، في هذا العصر، إلى مقاربات الحداثة، ومفاهيمها في التجريد، لينتهي إلى بزوغ المدرسة (الحروفيَّة) حديثة التكوين.
لا نعني بذلك أنَّ فنَّ الخط ينتمي إلى ما يُعرف اصطلاحًا، بالفنون النقيّة، كالموسيقى، والشعر، والفنون اللا شكليّة.وبذلك لا بُدّ لمنتهج هذا الصنف من الاقتراب من القاعدة الخطيَّة، مُنشئًا بذلك الموضوع، أو الابتعاد عن الجمل بعملية تسمى (مشق) الحروف وهو أحد الأساليب المُتَّبَعة في التمرين (الكتابة السريعة) ولكن باتباع القاعدة ذاتها.
وحينما نُقِرّ بوجود تلك القاعدة، ننفي عن الخط العربي صفة الفنون النقية برغم مراوغة الخطاط تلك القاعدة بالتراكيب وعملية الرسم في الحروف إلا أنّه لا يستطيع التجرّد من القاعدة الخطيّة وهو ما يتمايز به الخطاطون على صعيد عام.
اِستطاع الجصاني بتمرّده عن القاعدة أن ينشئ أسلوبًا مختلفًا، باستثمار القاعدة ذاتها، لم يُكَوِّن خطًا جديدًا، ولم يتبنَّ نهج الحروفيَّة، بل بحث وحفر في المنطقة الرماديَّة.. هذه المنطقة التي لا يمكن للمتلقي أنْ يلتقي بها عبر مرجعيته، بل تثير لديه ما يمكن تسميته بالانطباع الجمالي.. وهو ما تصبو إليه جميع الفنون في إحداث هذه الاستثارة، بين الأعمال الفنية ومتلقيها.
صمت
العمل الذي أسلّط الضوء عليه، هو لوحة عنونها الفنان بـِ (صمت) تلك اللوحة التي أعدُّها واحدةً من أجمل الأعمال الفنيَّة المقاربة للمدرسة الجشتالطية، بوصفها نوعًا من فنون الخداع البصري (optical) بمفهومها لا بتراكبها وتوليفاتها، ولهذا أطلقتُ عليها (غليون مرتضى الجصّاني) لأنّها تقتفي أثر لوحة (خيانة الصورة) التي رسم فيها (ماغريت) غليونًا أيقونيًّا، ثم كتب، تحته، عبارة إنّه ليس بغليون. ما أحدثه ماغريت من جعل المتلقي، في منطقة، لا يمكن أن يميّز، بها، بين الصورة الأيقونيّة المطابقة للماثول؛ (الغليون)، من جهة، والعبارة اللفظيّة، من جهة أخرى. إنّه ضربٌ للذاكرة والمعرفة، وهي عملية مؤثرة سايكولوجيًا، بين البصر كأداة، وما تراه من حقيقة أيقونيَّة، وما ينفيه اللفظ، وهو ما يحاكي عرض الجصّاني لتعريف الصمت، وتجسيدها بنقطة واحدة مانحةً قصدها وفق المثل القائل (ضع النقاط على الحروف)، لدلالة الوصول إلى الأهداف. غير أنّه قام باستبدال النقطة بأحرف الكلمة ليظهر من خلالها شكل الصمت.. لقد قال الكثير
بصمته.
إنّها المُفارقة التي تحدث، بين الصورة والمعنى بحسب المفهوم البارثي بالتوافق أو بالنفي .. وربما تختبئ، خلف عملية التأويل، سلسلة من المعاني، تموّلها المنطقة الرماديَّة الغائرة.
خيانة الصورة – ماغريت
صمت – مرتضى الجصّاني
لم يكرر الفنان الجصّاني هذه الأعمال، بل تفرّد بأنواع مختلفة، باحثًا عن جنس آخر لتشكيل الحروف متجنبًا الانتهاج الخطي التقليديّ.
وفي ما أراه أنَّ عدم الاهتمام بمثل أعمال، كهذه، يرجع إلى الثقافة البصريَّة البسيطة التي نَسِمُ بها الذائقة البيئيّة، وهنا لا بدَّ لي من ذكر مقولة الراحل الأستاذ الكبير جواد سليم في مذكراته "لا يمكن أن ترسم للمتلقي تفاحة إلا بوضع سهم نحوها والكتابة بجانبها، هذه تفاحة" الأمر الذي يتماشى مع ما أريد أن أصل إليه من أن المتلقي العربي والعراقي، خاصّةً، لا يحب ما لا يفقهه، ويعد الفن قطعة من أثاثه، منجذبًا للوحة التي يبرز الشكل المطابق، فيها، لحقيقته. الأمر الذي لا يمكن عدّه سُبّة، فهي الذائقة السائدة، وهو ما لا يمكن أن نسمه بالعالم القائم بذاته، الذي لا يحتاج إلى الموضوع، إذ تصبح، فيه، كل الموضوعات، في متناول الفن، بشرط مقاربتها بصياغة ورؤية وتعبير جمالي عابر لحدود توقعاتنا.
لا يمكن أن أسلّط الضوءَ على جميع تلك النماذج التي أنتجها الجصّاني ذلك لتنوعها وتداخلها، أو في ما أسميته بتلك المنطقة الرماديّة، في وجهها الآخر الذي نصطلح على وسمه
بالحريّة.