أحمد عبد الحسين
في كلّ عمل ابتكاريّ، سواء أكان علمياً أم أدبياً، فإنّ الإنسان يكافح ضدّ طبيعته الخاصة، يجاهد على أن يتجاوز كل ما هو متاح له في جبلّته وقدراته، ويتخطى ما هيأت له المقادير في أصل خلقته.
فنحن من الناحية الفسلجية “والنفسية كذلك” ما زلنا أبناء كهف، وأدمغتنا في الحقيقة تشكلتْ بقوة الانتخاب الطبيعيّ لإعطائنا الأفضلية في الصيد والتقاط الثمار والقتال والتنافس في سبيل الحفاظ على النوع، أيْ كلّ ما يشدّنا إلى أقربائنا من سائر الحيوانات الأخرى.
لا شيء في دماغ الإنسان مهيّأ للبراعة في الرياضيات أو الفيزياء أو الشعر أو الرسم وسرد القصص، ومع ذلك فإن الإنسان يتقدّم في هذه الفنون بقوّة هي قوة الرغبة في أن يتجاوز نفسه، أن يتخطى قدراته إلى أبعد فأبعد.
الرسوم التي لطّخ بها أجدادنا جدران الكهوف بالأحمر والأسود “الأحمر من الدم والأسود من الفحم” أوّل تواقيع الإنسان على وثيقة تثبت عدم اكتفائه بنفسه، وأوّل قفزة له من الطبيعة إلى خارجها، من حدود الحيوانية التي كان مستغرقاً فيها استغراقاً تاماً عبّر عنه “جورج باتاي” بمقولة فريدة: “الحيوان في الطبيعة كالماء في الماء”، إلى حدود إنسانيةٍ تريد تجاوز شرطها الفسلجيّ والفيزيائي.
نحن أبناء الكهف. ويبدو تحت التأمّل العميق أنّ الابتكار حدثٌ طارئ على خلقتنا، ونحن إنما نباشره تحت سطوة خوفنا من أن نعود إلى أصلنا الكهفيّ ذاك. لأنّ النزعات البدائية التي هيأتْنا لها الطبيعة ما زالتْ على حالها: التغالب والرغبة في الاقتتال وحيازة الممتلكات وتسييجها وإرادة العيش بأي ثمن.
اختُرع الفنّ لنثبت لأنفسنا أننا أكبر مما نبدو عليه وأعمق، وأن وراء هذه الكتلة من اللحم والدم والعظام كياناً لا يريد أن يحيا كيفما اتفق بل يريد العيش بامتياز، واحتجنا إلى قرون لنحوّل حاجتنا الأساسية للأكل والشرب إلى فنّ للطبخ، وننتقل بحاجتنا إلى المأوى من كهف إلى بيت، وبرغبتنا في تعريف أنفسنا لمثيلنا من الإخبار إلى التعبير، أيْ من الغمغمة وإصدار الأصوات المحذرة إلى إنشاء الشعر وسرد القصص.
كم يبدو الفنّ إعداداً ثانوياً للتغطية على طبيعتنا؟ إنه تماماً يماثل بَشَرة الإنسان التي تغطي الدم والعصب والأمعاء والعضلات، ومن دون هذه البشرة سيغدو منظره الحقيقيّ غاية في البشاعة والتوحش.
عملٌ متواصل ضد الطبيعة. هذه خلاصة الثقافة كلها.
لكنّ بارمنيدس هو القائل “إن الطبيعة تحبّ أن تتخفى”، وهي جملة سحرتْ نيتشه مطوّلاً فكررها في كثير من كتبه. للطبيعة القدرة على أن تختبئ في طوايا الإنسان وتبهته من حيث لا يحتسب، فما زالتْ إلى الآن ظلال الكهف “كهفنا الخاص لا كهف أفلاطون” تتوعدنا وتريد أن تسحبنا إلى أصل أصول جبلّتنا: حيوانات تريد أن تعيش كيفما اتفق.
الحرب والرغبة في التدمير “تدمير الآخر والعالم” والتنازع على الممتلكات حتى الموت ليستْ شروراً طارئة كما أوهمنا أنفسنا، بدليل أنها تجدد نفسها يومياً بأنماط شتى. الثقافة في الحقيقة هي المعطى الطارئ في الإنسان، لكنه الطارئ الذي يجب أن يكون كل كدحنا وجهدنا لجعله بديلاً عن الطبيعيّ وحاكماً عليه.