هل ما زال العراق رائداً شعرياً ؟
البصرة: صفاء ذياب
لم تكن جملة الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته (أتذكّر السيّاب) “فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعراً يا صاحبي!” الأولى في وصف العراق كونه بلد الشعر، فمنذ بدايات تشكّل العراق كبلد كان منبعاً للتجارب الشعريَّة الجديدة وابتكار الأنواع الشعرية، ابتداءً من كلكامش وملحمته، مروراً بالعصر العبّاسي الذي شكل تجارب شعرية مهمة، كان المتنبي على رأسها، وصولاً إلى الجواهري، والسيّاب وسعدي يوسف وغيرهم الكثير من الشعراء الذين غيّروا في خارطة الشعر العربي.
غير أنَّ ما حدث منذ دخول السوشيال ميديا في حياتنا، قلب المفاهيم الشعرية، حتّى أنَّ الكثير من المدوّنين الذين ينشرون بوستات لا تعني شيئاً جمعوها في كتب أطلقوا عليها (شعراً)، وأصبحوا من الأسماء المعروفة عراقياً وعربياً.. فضلاً عن استسهال دور النشر العراقية والعربية في طباعة أيِّ كتاب يصل إليهم بمجرّد أن يكون مدفوع الثمن.
والآن، بعد هذه القرون الطويلة من تسيّد العراق شعرياً، هل ما زال العراق بلد الشعر؟
رهان الشعر
يقول الشاعر هيثم عيسى، إنّه من الجميل أن نتّخذَ من “كن عراقياً لتكون شاعراً” مقولة لاستجواب صارم وموضوعي لما يهيمن على سوق الشعر في العراق، بدلاً من كونها مقولة ثناء واحتفاء. وعلى الرغم من اللبس الحاد في تقديم إفادة مصغرة لما يجري، ويقدّم ملاحظتين:
الأولى: كما هي الكتابة الأدبية الفاعلة، الشعر فعل جمالي وهو ممَّا لا شكَّ فيه ينطوي على نشاط سياسي، يحرّض على نحو جوهري إلى الخروج من القطيع الذي تسعى الأنظمة السياسية لصناعته وتكريسه. انطلاقاً من هذا الأثر، سيكون من الصعب أن تقع العين الفاحصة على ملامح هذا التحريض من خلال متابعتها هذا الانفجار الهائل في كتبة الشعر في العراق. كثيرون منهم يكتبون العمود الشعري كما لو أنّه لم يستوفِ زمنه نظريةً ومنجزاً شعريّاً ويصبح تراثاً خالداً. وعلى النقيض منهم، يكتب آخرون نصوصاً شعرية أقل ما يقال عنها إنّها في قطيعة كاملة مع تراثهم الشعري. نتيجة لذلك، كلاهما قد وقع في مصيدة النَظم بمعناه العميق، بينما ندرة أدركوا أنَّ عليهم أن يفلتوا من هذه المصيدة، أولئك الذين نبشوا تراثهم الشعري بدبّوس واستخرجوا ما يمكن أن يواجهوا به الواقع ويبنوا موقفاً من الحياة.
الثانية: في كلِّ يوم نصطدم بمئات النصوص الشعرية التي يزعم أصحابها أنَّها قصائد نثر من دون أن تكون لها صلة بالمصطلح الأصل “الفرنسي”، ومن دون أن يكشفوا فيما إذا كانت لديهم اشتراطاتهم أو براهين تجعل من تلك النصوص قصائد نثر. يبدو أنَّ الرهان على بقاء الشعر عراقياً يستدعي منّا فهماً لا لبس فيه لما نكتب شكلاً ومضموناً، ويتطلّب منّا فضحاً لطبيعة القطيع الذي تتبنّاه سياسة ما.
منجم الشعر
ويبين الشاعر كامل الدليمي أنّه منذ بداية استعمال الحرف كلغة منطوقة تعلّم الإنسان العراقي حرفة الشعر وعلّمها ولعلَّ مصداق ذلك ملحمة كلكامش التي لم تزل محط أنظار النقاد والدارسين وهو ما دفع الكثير من شعراء العرب القدماء والمعاصرين ومنهم درويش لاعتبار بلاد وادي الرافدين منبعاً للشعر وصناعته بأغراضه المعروفة.
لهذا، فالعرب ينظرون للشعر العراقي كونه قمة، لأسباب، منها: البيئة العراقية؛ فطبيعة هذه البيئة أنَّها منبع المأساة والظلم الموجّه للإنسان فيها لا يعدله شيء وهي غالباً منطقة صراع كفيلة باضطهاد سكّانها، فلم تتوقّف عن الحروب والغزوات وأطماع الجيران لغناها المادي وثراء عقول سكّانها إذا ما عرفنا أنَّ الشعر إحساس يولد من المأساة.
وطبيعة تركيبة الإنسان العراقي أكسبته خصوصية الاعتراض والمحاججة الدائمة والشعر أحد أبرز وسائل الاعتراض والرفض وإلى يومنا لم يتغيّر كثيراً السلوك الجمعي للمجتمع العراقي وقد يكون السبب عوامل فلكية جغرافية كما تطرّق لذلك عالم الاجتماع الوردي عن ازدواج قائم في هذه الشخصية رفضاً وقبولاً، توافقاً واختلافاً، ثورة وسكينة... وهو ما أكسب الشعر هذه التناقضات وأجمل ما في الشعر هذه السمة الإبداعية التي طبع الشعر العراقي عليها.
فضلاً عن اللغة وفصاحتها وأساليب بيانها التي أتقنها العراقي نحواً وصرفاً ودلالة وأصواتاً.
أمَّا الطارئون على المشهد الشعري العراقي اليوم فهم نتاج العولمة بوجهها الأسود والتكنولوجيا الحديثة لعبت دوراً في تشجيع متشاعرين لا حصر لهم أطلقوا على أنفسهم ألقاباً مهولة منها (أمير الشعراء، ملك القوافي، عميد الشعر العربي...) ولو اختبرت أيّاً منهم لفشل ولم يُجبك عن أبسط القواعد الشعرية.
الواقع الشعري
ويبيّن الدكتور نزال فراك أنَّ الناظر للساحة العراقية يقف عند السيّاب ونازك الملائكة وريادتهما لاختراق الشكل الشعري باتجاه الشعر الحر، ومن ثمَّ أحمد مطر ولافتاته المصبوغة بالسخرية والمفارقة وبين هذين يقف الجواهري طوداً يجمع سحرَ القديم واشتغالات الحداثة، وما صنعه جيل الستينيات بعده عن طريق التجريب وصولاً لقصيدة النثر، وما يحويه هذا اللون من القصائد من مخاطرة تتأرجح بين الإلقاء تارةً والنسيج الشعري تارةً أخرى، فالخاطرة أضحتْ شعراً يتعكّز أحياناً على الموسيقى وربَّما مقبولية الشاعر أو الشاعرة بين الأوساط الشعرية والفنيّة على حدٍّ سواء، وممَّا ساعد على هذا التدنّي هو سيادة التفاهة في الأوساط الاجتماعية واحتكارها لوسائل التواصل الاجتماعي حتَّى غدتْ ثقافة رائجة، لتنعكس بدورها على أفول اللون الحقيقي للشعر العراقي، مهدّدةً بذلك حقيقة الشاعر العراقي، وما يؤدّيه الإعلام المؤدلج في صناعة بعض الأسماء وإضفاء صفة شاعر له، بعيداً عن التجربة الشعرية له، بيد أنَّ هذا لم يمنع من بقاء شعراء عراقيين يحرثون في حقل الشعر العربي الرصين، وهو ما يُحتّم على المعنيين تسليط الضوء عليهم، لديمومة بريق الشعر العراقي، كي تبقى مقولة درويش خالدة ومستمدّة من واقعنا الشعري.
مساحات فضفاضة
من جهته، يرى الشاعر إيهاب شغيدل أنّه لا يمكن الشك إطلاقاً في أنَّ العراق لا يزال مصدراً للمجاز والشعر، لم يصدف أن تجد في بلد هذا العدد الكبير من الشعراء الجيّدين، هناك بلدان عربية وإقليمية يمرُّ فيها عقد كامل من دون أن تنتج شاعراً، وهذا لن يحصل في العراق.
ما فعلته مواقع التواصل الاجتماعي هي أنَّها فتحت مساحات فضفاضة، لكنَّها بالتأكيد لم تؤثّر في جودة الكتابة، بالعموم الكتابة فعل جيّد، محفّز أن ترى رغبة المجتمع في الكتابة الشعرية، فقد تتصدر بعض الأسماء لأسباب ميديوية، لكنَّ هذا لا يجعلنا ننخرط في الحرب عليهم، بالمقابل في كلِّ عصر هناك مواهب ضعيفة برزت لأسباب سياسية واجتماعية وليست إبداعية، ما يجري في الميديا لا يدعونا لإقامة الحدود الإبداعية والفصل الحاد بين الجيد والرديء، ولنتذكر عبارة ماركيز “جوار كل أدب جيّد أدب سيّئ”.
ويعتقد شغيدل أنَّ ما تحمله النخب من ضغائن على كتّاب الميديا فيها من المبالغة الكثير، نفسها هذه النخب ربَّما كانت لديها في بدايتها نصوص بهذا المستوى أو أقل، الفارق أنَّها لم تنشر في وقتها، فضلاً عن ذلك لماذا لا نعطيهم فرصة لقول ما يشعرون به، وربَّما تتطوّر موهبة بعضهم، وربَّما نحصل على شاعر جيّد بمرور الزمن، الكتابة بالعموم أبسط من هذه التقسيمات الحادّة، لندع من يرغب أن يكون شاعراً يحلم، هل في ذلك ضرر؟
سلسلة امتداد
وبحسب الشاعر الدكتور أحمد ضياء، فالشعر يمثّل البوّابة الأنجع في الذاكرة العراقية، لما امتلكه العراق من أسماء حفرت في الصخر، بالتالي، يكون الشعر فارس اللحظة الكونية لكلِّ فرد. ومن تجد أنَّ كلَّ فرد هو شاعر بطريقته الخاصة، سواء كتب أو لم يكتب، وما الشعراء الذين كتبوا إلّا نبذة وجدت طريق الحرف والتعبير، الأمر الذي مكّن هذه الذوات من أن تقف في بداية المنجز العربي، ولم يعد الشعر عند العرب تاجهم مثلما خصّص العراق امتيازه الكتابي وفق هذا بوابات مشهدية للكتابة المختلفة، ولا يقتصر هذا الشيء على الشعر الفصيح فقط، بل يذهب هذا الأمر أيضاً إلى الشعر العامي الذي بدوره يمارس خصوصيته على الصعد كلّها.
مضيفاً: يتجدول الشعر العراقي في مفترق طرق مهمة ربّما لم يشعر بهذا الأمر الشعراء العرب، إذ إنَّ هيكلة افتراضاته الثقافية جاءت عبر جملة من المعارف الفلسفية والمفاهيمية، فلكلِّ شاعر حيوز ارتباطية يعالج عبر ذاته النصية مقتضياته الوجودية والميتافيزيقية، فهو لم ينأ بذاته عن الجماهير، بل كان مشاركاً معهم في التغيّرات كلّها التي تطرأ على الوضع الاجتماعي والسياسي، من هنا يجنح سؤال مركزي: أين الشعر العراقي هذا اليوم عمّا كان عليه في مرحلة سابقة؟
ولعلَّ الجواب عنه يكون عبر مراقبة المشهدية الكتابية الآن، فلدينا من الشعراء الذين يشكّلون امتداداً لسلسلة النصوص التي وصلتنا سابقاً من الشعراء، بالتالي، فإنَّ مقولة درويش ما زالت محقّقة أثراً في المشهدية العربية وبها أو من دونها فالعراق بلد الشعر والقراءة المتلازمين.
رحم الشعر
ويختم الدكتور حسن البصام حديثنا بقوله إنَّ العراق عُرف بأنَّه “بلد الشعر والشعراء” وهذا دليل على رقي الحضارة وسمو الإنسان في حياته اليومية ومعتقداته وثقافته. والأميرة الأكدية (إنخيدوانا) في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، هي أقدم شاعرة؛ في قصائدها تتجلّى الشاعرية العالية والعاطفة الدافقة.. ومن ثمَّ تنوّعت قصائد العراقيين عبر التاريخ بتعدد لغات القوميات التي سكنت المنطقة. كما اصطبغت بدم الحروب والدمار والفقر في فترات متلاحقة، إذ إنَّ الشعر هو المتسيّد في الحياة ولا منافس له من الأجناس الأدبية أو الفنّية الأخرى، وحتَّى في السنوات السابقة التي تعدّدت فيها أساليب الأدب والفن لتتعاضد وسط تشابك الحياة وصراعاتها، كان الشعر وحده نبض الإنسان وهواجسه، وصفحة الحياة بخطوطها كلّها.. وما زال العراق رحم الشعراء يلد التوائم برغم ما اعتراه من قمع وتجويع وهلع وموت، لكنَّ الحياة يقظة في ضمائر الشعراء وقلوبهم، فهو يتغزّل بحبيبته ووطنه ويخاطب الجمال، وهو في لجّة عذابه.. وعلى الرغم من النشر الإلكتروني المفتوح وغياب الرقيب حيث تدفّق نهر الشعر تدفّقاً بكل عذوبته ومرارته وغرينه وما علق به من سقطات واستخفاف واستسهال، ووسط هذا الكم المتصاعد وما يلقون من تشجيع رخيص، جعل أعدادهم تتزايد باضطراد، إلَّا أنَّ من بين هذه الموجات المتدافعة برزت أقلام جادّة متجدّدة تفوّقت كعادتها على الساحات العربية الأخرى التي يتزاحم فيها الشعراء للأسباب ذاتها.. وهذا ما جعل العراق على مدار القرون “بلد الشعر والشعراء”.