أمجد نجم الزيدي
حظي كتاب أوستن كليون (Austin Kleon) (اسرق كفنان Steal Like an Artist) باهتمام كبير، خاصَّة لدى أولئك الذين يبحثون عن وجهات نظر جديدة في عالم الكتابة والفنّ، وكذلك المبتدئون الذين يتطلعون إلى الدخول إلى عالم الإبداع، ويبحثون عمّن يأخذ بيدهم في هذه العملية المعقدة، ويبسطها لهم، ويكون دليلاً إرشادياً في كيفية إخراج الطاقة الإبداعية الكامنة لديهم.
لذلك فهذا الكتاب الذي يعنى بالعملية الإبداعية بصورة عامة، بغض النظر عن نوع هذا الإبداع أو شكله، جذب الكثير من أولئك المتعطشين، وذلك بسبب أسلوب مؤلفه أوستن كليون وقدرته على استخلاص الأفكار المعقدة وتحويلها إلى نصائح وإرشادات قابلة للتنفيذ، إذ يمكن أن يصبح هذا الكتاب مصدراً قيماً لأي شخص يتطلع إلى إطلاق العنان لإمكانياته الإبداعية، من خلال تجربة المبادئ التي يقترحها ومحاولة تطبيقها عملياً، فمنذ صدوره عام 2012 حقق رواجاً كبيراً، وعدَّه بعض المهتمين من الكتب التي تقدم نصائح عملية، في كيفية إطلاق شرارة الإبداع، والحفاظ على جذوتها، حيث بني هذا الكتاب على سلسلة من عشرة مبادئ، مصحوب كل منها بحكايات وتمارين عملية وأمثلة؛ من تجربة كليون الإبداعية.
في عالمنا السريع والمتغير يصبح من الصعب أن نكتشف الطاقة الإبداعية الكامنة فينا، لذلك يذكرنا هذا الكتاب، بأنَّ الإبداع أداة حيوية لبناء الشخصية، والبحث عن الذات والتعبير عنها، إذ يمكننا أن نعده بمثابة خارطة طريق لحياة مشبعة بالإبداع، ومصدراً لشحذ الإلهام من خلال المساعدة في اكتساب المهارات الإبداعية، سواء بالنسبة للفنان بالمعنى التقليدي، أو لشخص يسعى إلى ضخ المزيد من الإبداع في حياته اليومية.
هناك الكثير ممن يحاولون تصوير العملية الإبداعية بأنها عملية معقدة وبعيدة المنال، لذلك يحاول أوستن كليون أن يبسط هذه العملية ويرشد الفنانين والكتاب والموسيقيين الطموحين، وأي شخص يتطلع إلى تنمية مهاراته، بتقديم منظور واضح وممتع للعملية الإبداعية، وتبديد أسطورة العبقرية المبهرة للمبدع المنعزل الذي يعيش في صومعته أو برجه العاجي، ويشجع على إنشاء روتين وانضباط لتلك العملية، ويدعو إلى تبني فكرة أنَّ كل الأعمال الإبداعية، بطريقة ما، تتأثر بالأعمال الأخرى وبالمحيط الخارجي.
الفكرة من وراء الكتاب هي الاعتراف بأنَّ كل عمل إبداعي يتأثر بما حوله، بالإضافة إلى أننا نتشكل ونبنى إبداعياً، من خلال اطلاعنا على الأدب والفن، وما يحيط بنا من مؤثرات، والتي من خلالها يمكن لنا تطوير قابلياتنا الإبداعية، وأنَّ مصدر ما يمكن أن نبدعه هو التأثيرات المتنوعة التي نواجهها في حياتنا، حيث يقول كليون: (أنت بالحقيقة مزيج مما سمحت له بالدخول إلى حياتك، فأنت محصلة المؤثرات التي أثرت بك)، لذلك فهو يدعونا إلى أن نكون فضوليين، ويحثنا على أن نصبح قرّاء نهمين، ومستهلكين شرهين للثقافة، وأن تكون لدينا مجموعة واسعة من الاهتمامات، لأنَّ الإبداع هو ما قرأناه، وما استمعنا إليه من موسيقى، وما شاهدناه من فن، وما اكتسبناه من تواصلنا مع المحيطين بنا، كل هذا يسهم في بناء حصيلتنا الإبداعية وما سنقدمه لاحقاً.
فكرة الكتاب أيضاً ليست الدعوة إلى الانتحال أو السرقة، بل إلى تشجيع القراء على إدراك أنَّ العمل الإبداعي لا يولد في الفراغ، وكل مبدع (كاتباً كان أم فناناً)؛ سواء بوعي تام أم بغير وعي، يتأثر بأعمال من سبقوه، لذلك فمفهوم (السرقة) في هذا السياق؛ هو مهارة الاقتراض والتكيف وإعادة مزج الأفكار، لإنشاء بناء جديد وفريد للعمل الإبداعي، حيث ينقل كليون عن جيم غارموش قوله: (اسرق من أي مكان يتجاوب مع إلهامك أو يغذي مخيلتك، التهم الأفلام القديمة والجديدة، الموسيقى، الكتب، اللوحات، الصور الفوتوغرافية، القصائد، الأحلام، المحادثات العشوائية، العمارة، الجسور، علامات الشوارع، الأشجار، الغيوم، المسطحات المائية، الضوء والظل، واختر فقط ما يخاطب روحك مباشرة، فإن قمت بذلك، فسيكون عملك (أو سرقتك) فعلاً أصيلاً). يستخدم كليون مفهوم السرقة في هذا الكتاب كتعبير مجازي، إذ يقول إنَّ هناك سؤالاً دائماً ما يطرح على الفنانين وهو (من أين حصلت على أفكارك؟ فيجيب أكثرهم صدقاً: سرقتهن) وهنا لا يعني السرقة أو الانتحال الفعلي كما أسلفنا، أي السلوك غير الأخلاقي الذي ربما توحيه كلمة السرقة، فهو لا يدعو إلى أخذ عمل شخص ما وتقديمه على أنه عمل شخص آخر، بل يشجع على استلهام مجموعة واسعة من المصادر، وتكييف الأفكار الموجودة، وإعادة مزجها لإنشاء شيء جديد، ضمن رؤية تؤكد أنَّ الإبداع الحقيقي يزهر داخل المجتمعات النابضة بالحياة، وليس في عقول الناس المنعزلين.
يمكننا أن نعد قرار أوستن كليون بعنونة كتابه بـ (اسرق كفنان) مغامرة، لكنه في نفس الوقت عنوان طريف، ومثير، لأنه يثير فينا حساسية أخلاقية، ويجعلنا نتساءل عن مدى جدية هذا الكتاب، وماهي نوع السرقة التي يدعونا إليها؟، فقد يتبادر إلى الذهن، عند الوهلة الأولى، أنَّه يشير إلى عمل غير أخلاقي، إذ كيف يمكن أن يدعو إلى السرقة! ألا ينبغي للإبداع أن يكون أصيلاً؟ ولذلك يدفعنا هذا العنوان المثير إلى الاستغراب، وإلى البحث عما يقصده الكاتب من ورائه، ولكن عند التمعن؛ نصل إلى نتيجة مفادها أنَّ هذا العنوان هو تعبير مجازي يلخص أهم طروحات الكتاب، وأكثرها إثارة، إذ إنه يتحدى به المفاهيم التقليدية للإبداع والأصالة، ويدفع القراء إلى التشكيك في الأسس التقليدية للفن وممارسته، وأنَّ هذا العنوان، وربما الكتاب برمته هو بيان للتمرد، ودعوة لتحدي المفاهيم المسبقة والتقليدية للعملية الإبداعية، والتشجيع على التفكير بالمسارات غير التقليدية التي تؤدي إلى اكتشافات غير تقليدية.