هجرة القرّاء للرواية الكلاسيكية

ثقافة 2023/10/11
...

  موج يوسف 



  هناك تساؤل يكرر نفسه في كلّ عصر يثيره العديد النقاد والقرّاء والأدباء مفاده: لِمَ هجر القرّاء الأدب الكلاسيكي؟ هل لأننا غادرنا مرحلته؟ وهل هو أدب مرتبط بحقبة معينة؟ وربما السؤال الأدق هو الذي طرحه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في كتابه الصادر عن دار المدى بعنوان ( لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي)، لكنّه قبل أن يجيب عن تساؤلاته نبّه قراءه على إشكالية معقدة، هي محور مقالتنا، فقال: ( الكتب الكلاسيكية هي التي يُشير إليها أغلب النّاس بعبارة أنا أعيدُ قراءة .. وليس أنا أقرأ).
  فقوله الآنف ذكره هو الأقرب لرؤيتنا التي نودّ طرحها، وهي أننا في بزوغ شمس الشباب نُقبلُ على قراءة الكلاسيكيات، لكن قراءتنا تكون بوعي ضعيف، وبال مشتت، وما إن تنضج أفكارنا حتى نعود إلى قراءتها مرة أخرى، وقد يقول قائل: إنَّ كلامنا فيه شيء من الترف، والإسراف لإعادة قراءة ما قرأناه سابقاً. الأمرُ ليس كما يتصور أيّ متلقٍ وإنما هو مرهون بإشكالية أهمية قراءة الأدب الكلاسيكي بشكل عام والرواية بشكل خاص، وقبل  الخوض في تحليل الخيوط المتشابكة في الإشكالات السابقة، والحالة غير الصحية التي نمرّ بها في عصرنا هذا، لا بد من الإشارة السريعة إلى أن أهم الكتّاب الذين نُحتت أسماؤهم بطين الذاكرة الأدبية هم الكلاسيكيون، الذين ذاعت شهرتهم في العالم كلّه، فحتى الذي لم يقرأ رواياتهم يعرفهم، كفلوبير، وبلزاك، تولستوي، ثيربانتس، دستوفيسكي، فيكتور هيجو، وأسماء أخرى لم ينسها الأدب، ويبقى السؤال الذي يلحّ علينا؛ لِمَ هجرهم القرّاء في عصرنا الحالي؟ هل العلة فيهم أو في الزمن؟. 

   إنَّ إيقاع العصر يسير بسرعة هائلة، ويرافقه التطور التكنولوجي الذي صار يدفع بالإنسان نحو تسليع نفسه، فتعرضت أنسنته وقيمه إلى إنكسارات كبيرة، ولم تعطه الحياة إلا الشقاء، فلم يعد يبالي لقيمة التفكير والتأمل، والبحث عن الذات، لأنَّ الأفكار صارت تلامس السطح ولم تعد قيمة تذكر للمعاني الوجودية العميقة؛ لذا نجد العديد من الكتّاب أو الكاتبات لا يثيرون الأسئلة في كتاباتهم، ولا يلتفتون إلى التفاصيل الدقيقة في الحياة الواقعية التي بدورها تكون حواضن تضم كتابتهم، لأنَّ قارئهم لا يهتم بها، عدا أنهم لم يمرّوا بالدرس الأول في الكتابة وهو قراءة الكتب والروايات الكلاسيكية، بزعم أنهم يسيرون في طريق الحداثة وما بعدها، ويغفلون عن قضية جوهرية، هي أن كلّ الآداب والنظريات في العالم بدأت من الكلاسيكية ثم خرجت عنها، وتطورت، فالأدب الكلاسيكي الأم المنجبة التي لم تمت إلى الآن، لأنّنا كلّما عدنا إلى قراءته اكتشفنا الجديد الذي يستفز وعينا، ويضيف إلى ثقافتنا، ويصقل الموهبة المستقرة في الذات، فالأدباء المبدعون الحداثويون هم أبناء الكلاسيكية، فعلى سبيل المثال ارتبط اسم همنغوي بالروائي الفرنسي ستندال؛ لتشابه أسلوبهما، لكنّه يُصرح في أحد حواراته أنه يميل إلى أسلوب فلوبير في الكتابة، وتصوير الأماكن والشخصيات والالتزام الفني. كما يذكرُ الكاتبان ديديرو صاحب رواية ( جاك المؤمن بالقدر ومُعلمه)، ولورنس ستيرن، أنهما تأثرا بشكل مباشر في رائعة ثيرفانتس الأدبية، بالرغم من أن كلّا منهما قد اكتسب عناصر مختلفة منها. وكذلك أثرت الروايات الكلاسيكية في السينما، كرواية كنديد لفولتير التي اتبع فيها تقنية تراكم الحدث فوق حدث آخر بشكل سريع، فتسمى هذه التقنية في السينما بالعنصر القادح، وهو الحدث الذي يقود البطل إلى العقدة الدرامية الرئيسة، ولم ننسَ أن أهم الأعمال السينمائية في هوليوود في الأصل كانت مقتبسة من الروايات العالمية، فدستوفسكي مثّلت أغلب رواياته، وتولستوي، وهيغو. وممّا تقدم ذكره نبيّن للقارئ أن العصر الحالي مهما بدا تافهاً وسطحياً والكتابات تكرر ذاتها، لكن هناك قلعة أدبية ما زالت تمثل مرجعاً ثابتاً نعود إليه ونقيم من خلاله وعينا وتقدّمنا أو تراجعنا الأدبي، هي الكلاسيكية.