رائد جورج من الغناء العاطفي إلى التأليف الكنسي

ثقافة 2023/10/11
...

 سامر المشعل 

شكل الموسيقار رائد جورج حضورا لافتا ومهما في ساحة الفن العراقي في عقد التسعينيات من القرن الماضي على مستوى التأليف الموسيقي والتلحين، إضافة إلى تجربته المتواضعة بالغناء. وعلى الرغم من مغادرته العراق أواخر التسعينيات من القرن الماضي وابتعاده عن الساحة العراقية.

بعد إقامته في الولايات المتحدة الأميركيَّة منذ ربع قرن، إلا أنه قدم عطاء إبداعيا لا تغفله الذاكرة الجمعية. وما زال يذكر اسمه كأحد المجددين بالموسيقى العراقية في اللقاءات والجلسات الثقافية والموسيقية بكل اعتزاز وفخر.

ولعلَّ الكثير من القرّاء لا يعلمون أن الموسيقار رائد جورج من أوائل الموسيقيين، الذين اشتغلوا بحماسة وطنية بعد التغيير بالعراق العام 2003، فقد عزف مع السيمفونية العراقية أول عمل موسيقي بعد التغيير، وهو نشيد موطني بتوزيع موسيقي جديد، في قصر المؤتمرات، ما أثار دهشة وإعجاب سيرجيو دي ميلو الممثل العام للأمم المتحدة بالعراق، أن يكون بالعراق موسيقيون بهذا المستوى من التطور.

اذ عاد رائد جورج إلى العراق قبيل دخول الأميركان، فقد كان يتابع بقلق شديد تحشيد القوات الأميركيَّة لسقوط النظام الدكتاتوري ولم يشئ أن يظل يراقب الأحداث من خلال شاشة التلفزيون، فقد شهد الأيام الأولى التي أعقبت التغيير السياسي بالعراق.. وخلال هذه الأيام تكررت لقاءاتي بالفنان رائد جورج وأحاديثنا عن الموسيقى والسياسة، بوجود صديقه القريب إلى قلبه الصحفي والكاتب فلاح المشعل.

الملفت في تجربة رائد جورج الموسيقية إلى أنها تتسم بالمزج المتقن بين الموسيقى العراقيَّة والغربيَّة، من دون أن يخرج عن الروح الشرقية باستخدام المقامات التي تحتوي على الربع تون، كذلك أطّر أغانيه بطابع الرومانسية الشفافة، التي أعطت ترافة غير معهودة بالغناء العراقي بإيقاعات غربية، مع التوزيع الموسيقي المؤطر بإحساس عالٍ بحوار الآلات الموسيقية، ما جعل أنظار المطربين الشباب تتجه إليه، ومنهم الفنان كاظم الساهر الذي وزع له العديد من الأغاني، التي بدأ بها مشواره الغنائي مثل: افرح وتألق بالسهرة، الساعة متأخرة، كما وزع المقدمة الموسيقية لمسلسل نادية، والذي غنى فيه كاظم الساهر أغنية "شجاها الناس"، التي كانت السبب بانطلاق شهرته، كذلك وزع العديد من الاغاني بين عدد من الفنانين، منهم اسماعيل الفره وجي وقاسم السلطان وغيرهم.

عندما حط الرحال في ولاية ديترويت اتجه إلى تأليف التراتيل الكنسية، وسحر موسيقاه قادته للعزف امام بابا الفاتيكان وعن ذلك يقول :" نعم لقد تشرفت بلقاء البابا، كما عزفت في إحدى صالات الفاتيكان ضمن قداس خاص بالكلدان العراقيين أقيم 

هناك.

وحقيقة فأنا فخور جداً بما تحقق لي، إذ ليس من السهل على المرء أن يحصل على مثل هذا الشرف الكبير".


موهبة مبكّرة

عشق الموسيقى منذ طفولته، فدخل إلى مدرسة الموسيقى والباليه، وتعلم هناك أصول الموسيقى والغناء، ونما حبه للموسيقى وبدأ يكبر مع سنوات عمره، ولفت الانتباه إلى موهبته من خلال تأليفه للموسيقى التصويرية لمسرحية "الانسان الطيب" للمخرج عوني كرومي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ليظهر على ساحة الموسيقى العراقية أصغر مؤلف موسيقي، ولم يبلغ حينها العقد الثاني من عمره. 

ومن الإنجازات الموسيقية التي تحسب للموسيقار رائد جورج تأليفه لموسيقى " حكايات الملكات الخمس"، التي افتتح بها مهرجان بابل الدولي العام 1994، وعززها بتأليفه موسيقى "شهرزاد"، التي قدمت في حفل ختام مهرجان بابل العام 1995.

لكن الموسيقى الأكثر شهرة، والتي ما زال العراقيون يتذكرونها ويتذوقونها هي الموسيقى التصويرية لمسلسل "رجال الظل"، ومن المفارقات التي ذكرها لي رائد جورج، أنه كان في عمان ينتظر تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركيَّة، وكان جالسا بالمقهى يلعب "الطاولي" مع أحد أصدقائه وأثناء ذلك سمع من تلفزيون المقهى فوز موسيقى "رجال الظل" كأفضل موسيقى تصويرية في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون، ونال شهادة تقديريَّة بتوقيع الموسيقار المصري عمار الشريعي.


التجديد الموسيقي 

عقد التسعينيات من القرن الماضي كان أكثر الفترات خصوبة وعطاءً، في مشوار الفنان رائد جورج، إضافة إلى تأكيد هويته الإبداعية بالعزف على البيانو والأورغن، وحضوره المتميز في مجال التوزيع والتأليف الموسيقي، اتجه إلى مزاولة الغناء، وقدّم مجموعة من الأغاني، التي نالت شهرةً كبيرةً في حينها، وما زالت ومنها أغنية "لا ترحلين" وأغنية "حيرتيني"، التي لحنها الفنان مؤيد مراد، وأغنية "سمّعني كلمة"، "ذكريات"، "سمعت عنك كلام"، "بغداد".. وغيرها من الأغاني، التي اتسمت بشفافية خطابها الغنائي وحداثة موسيقاها، الذي لم تألفه الأذن الموسيقية

العراقية. وأثناء تواجده في الولايات المتحدة الأميركيَّة قدم أكثر من عمل موسيقي منها المقدمة الموسيقية لمسلسل "الباشا"، والذي يتحدث عن شخصية رئيس وزراء العراق ابان العهد الملكي نوري السعيد، والذي عرض على قناة الشرقية، وكذلك تأليفه الموسيقى التصويرية لمسلسل "إعلان حالة حب" وغيرها من الأعمال.

تكاملت في شخصية الموسيقار رائد جورج عدة سمات، جعلته شخصية محبوبة ومتفردة في عطائها، منها قوة حضوره الابداعي ووسامة المظهر، على الرغم من أنه زاد وزنه كثيرا في السنوات الاخيرة، وجمال الروح والأخلاق والمواقف الإنسانية والوطنية المشرفتين، فضلا عن ثقافته الموسيقيَّة العميقة  والمتنوعة.