الطبابة الفلسفيَّة

منصة 2023/10/11
...

 حازم رعد 


«الفيلسوف طبيب الحضارة» بهاته الكلمات يختصر نيتشه مهمة الفيلسوف في العالم، إذ يقاربها بعمل الطبيب مستعيراً مناسبة المرض الذي هو «مشكلة أو إشكاليَّة» في كلا المجالين الطب والفلسفة معاً، فالمشكلة فلسفياً تستدعي تدخل الفيلسوف لحلها، كما أنَّ المشكلة في مجال الطب «المرض» تسترعي اهتمام الطبيب لإيجاد علاجٍ لها، وعليه فإنَّه تُوكلُ الى الفيلسوف مهمة علاج مشكلات الإنسانيَّة «فالفلسفة بشكلٍ عامٍ لا تخرج عن دائرة كونها وجود إنسان ووجود مشكلة وعلاقة بينهما»، كما أنَّ مهمة الطبيب علاج المرضى والبحث في ما يؤمن حيواتهم فاما أنْ يفلحَ وأما لا تكون الظروف والمشكلات قاهرة تتجاوز حدود المألوف، كذلك فإنَّ للفلسفة مهمة علاجيَّة تبدأ من الوقوف على معرفة الذات وصولاً الى معرفة ما الواقع والعالم والحياة.

جاءت هذه المقاربة نظراً لأنَّ الواقع بشكلٍ عامٍ يُمنى بأمراضٍ كثيرة ومشكلات كبيرة تفتك يومياً بالإنسان بصورة مباشرة أو عبر قنوات ووقائع مختلفة، فالطبيب إنما مهمته العلاج ولا يكون الطبيب طبيباً إلا بعد وجود الأمراض وإلا فما الحاجة إليه لو لا ذلك فقد قيل فلسفياً [الريان من يطلب الماء] فلا يعرض العطش إلا من تذوق طعم الماء.

وكذلك الفيلسوف فهو في أحد اشتغالاته إنما يُشخّصُ أمراضَ الحضارة الإنسانيَّة «من مشكلات وصعوبات وعثرات وأخطاء» ويجد في العمل من أجل إيجاد الحلول لها وبالتالي معالجتها بالطرق المناسبة لعلاجها وشفاء الحضارة منها.

والحضارة في أبسط حدودها حصيلة النمو والتقدم في اتجاهين، الثقافة إذ هاته الكل المركب من عقائد وآداب وفنون وعلوم وفولكلور وغيرها مما يدخل في منطق البناء الحضاري بطبيعته الثقافيَّة والفكريَّة والفلسفيَّة، وكذلك النمو والتقدم في الاتجاه المادي أو البناء المديني «السياسي» والعمراني كذلك، فالحضارة بحسب المفكر العربي مالك بن نبي (جملة العوامل المعنويَّة والماديَّة التي تتيح لمجتمع ما أنْ يوفرَ لكل عضوٍ فيه جميع الضمانات الاجتماعيَّة اللازمة لتطوره).

وإنَّ كلا الاتجاهين يمكن أنْ يعتريهما المرض والاعتلال وتصيبهما المشكلات والفلسفة هي من يتكفل التصدي لمهمة علاج الحضارة.

ومن الملاحظ أنَّ هناك تبايناً في الأمراض في ما بينها من حيث الكم والكيف والشدة والضعف، فأمراض البدن تختلفُ عن أمراض الروح وكلاهما يختلفان عن أمراض المجتمع «ككيانٍ اجتماعيٍ كلي» وكما تختلفُ عن أمراضٍ تصيبُ الدولة وأخرى تُمنى بها الحضارة تؤدي كل الأمراض دورَ التضعيف والتراجع الصحي واهتراء البِنْية إذا ما تركت من دون تداوٍ ومعالجات.

ومن ذلك الاختلاف ينوجد الاختلاف بين الأطباء ووظائفهم، فمنهم من يعملُ على مداواة وشفاء ما في الجسد، وآخر على علاج النفس، وهكذا تتنوع وتتوزع الأدوار حسب نوع المرض وحجم المرض، بينما مهمة الفلسفة هي أنْ تجد علاجاً لأمراضٍ تصيب الدول بما هي مفاهيم وأفكار تنظم المجتمع من حيث هو كيانٌ سياسيٌ يجتمع عنده مجموعة من الناس وكذلك أنْ تشخص أمراض الحضارة وتجد لها تطبيباً يساعد على شفائها مما يصيبها.

إنَّ طبابة الأفكار والمفاهيم هي الشغل الشاغل للفيلسوف عبر نسقٍ متكاملٍ من الآليات والأدوات والمقاربات التي يعتمد عليها في تلك العمليَّة العلاجيَّة بدءاً من مرحلة تشخيص المرض والوقوف على أسباب انبعاثه الى تحليل المرض بوصفه «مشكلة» وهذه الأخيرة تدخل في صميم عمل الفلسفة لتسهل إجرائيَّة الكشف والتشخيص الى مرحلة إيجاد العلاج وهي البدائل والمفاهيم اللازم توظيفها والعمل على تحييد نطاق ومساحة عملها وممارسها لتحصيل مركبٍ دوائيٍ متكاملٍ يحدُّ من تمدد المشكلة التي هي «المرض» في الحضارة وبِنْية الدولة وكذلك تعمل على الوقاية منه مستقبلاً لأنَّه قد عرفت أسبابه وتمَّ الوقوف على بؤر ظهوره وإنتاجه، هذه العمليَّة برمتها يمارسها الفيلسوف من أجل صحة وسلامة المفاهيم التي تدير الدولة وتنظم السلوك الحضاري. فهو يصبح فيلسوفاً كنتيجة للحيرة الواقع فيها كما يقول شوبنهاور، أو كاستجابة للمشكلات المتاخم لها ويحاول الخلاص منها فتفرض عليه البحث والتساؤل وإجراء محاولات حثيثة وحقيقيَّة لإنتاج إجاباتٍ وبحثٍ عن المعنى، ولذا فإنَّ المتتبع لتاريخ نشأة ونمو الحضارات سيلاحظ وجود نماذج من «فلاسفة» مهمين أسهموا بشكلٍ كبيرٍ ومباشرٍ في صنع تلك الحضارات مثيل اخناتون في مصر القديمة وبوذا في الصين واحيقار في حضارة آشور وصولون وانكساغوراس وافلاطون وارسطو طاليس في اليونان القديمة؛ أي قبل الميلاد، وشيشرون وسينيكا في الحضارة الرومانيَّة بعد الميلاد، ورينيه ديكارت وديفيد هيوم وفرنسيس بيكون وجون ستيورات مل وكارل ماركس وانجلز ويورغن هابرماس وأسماء مهمة أخرى لا يسع المقام لذكرها.

فكان للفلاسفة أهميتهم وإسهامهم الكبير في صنع الحضارة وتدشين مفاهيمها ومعالجة مشكلاتها وطبابة أمراضها أو العمل على الوقاية منها قبل وقوعها. فقول نيتشه (الفلاسفة أطباء الحضارة) لم يأت من فراغٍ أو هو ترفٌ من القول، بل عن واقعٍ موضوعي ملموسٍ ومحصلة تجارب مرت بها الإنسانيَّة في مختلف الحقب زماناً ومكاناً فوفرت تلك الخبرة لما يأتي بعد من أجيالٍ ودهور.