عبد الزهرة زكي يجسُّ نبضَ العالم

ثقافة 2023/10/12
...

  طالب عبد العزيز

 ربما تحيلني فكرة كتاب الشاعر عبد الزهرة زكي (في نبض العالم- سيرة الاعمى وقد رأى كلَّ شيء) إلى فترة مكوثه في زنزانة مفردة، حيث سجن ذات يوم، من العام 2002، فهو مصاب بعمى الزنزانة، لا بالعمى الفيزيائي (حماه الله) مع أنه، وفي حديث خاص، قال غير ذلك، لكنني، تلمست حيثيات هذا في ما كتبه».. وعندما ظلَّ صديقٌ، وهو أعمى، حبيساً في زنزانته» ص11. الصديق هنا هو عبد الزهرة زكي ذاته، وهذه تجربة جديرة بالتناول، أجاءت من واقعة حياتية أو من فكرة ما عن العمى. كتب بورخيس (1899- 1986) في محاضرة له عن العمى بعنوان (في مديح العمى) بترجمة بسام حجار بعد أن فقد بصره: «الآن يمكنني أن أعيشَ أحلامي بإلهاء أقل». أمّا أن تتحول تجربة العزلة عن العالم، أيِّ عزلة، في قعر سجن، أو بين جدران أربعة، داخل البيت، أو حتى في حديقة لا يبصر فيها انسانٌ شيئاً فذلك العمى بعينه.
  يقول بورخيس بأنَّ ناشر كتبه طلب منه كتابة ثلاثين قصيدة في السنة، لكي يُصدرها في كتاب! وبذلك يعني وضع نظام ما للتأليف، إذ من غير المعقول أن لا يجد شاعرٌ ما ثلاثين مناسبة للكتابة، وربما كان بامكانه استلال مادة كِّل قصيدة من متن سابقتها، وبذلك سيكون الكتاب جاهزاً. أسْعَفت فكرةُ الكتاب وإطارها العام الشاعر عبد الزهرة زكي وهيَّأت له سبل كتابتها، وها قد تحصلت بين ايدينا نسخة من كتابه الذي أتمَّه في صيف وخريف العام 2021 خارج عناوين الالهام التقليدية، فالشاعر البصيرُ تلبس روحَ شاعره الأعمى، وأراد أن يكونه. هناك أعتقاد بأنَّ هوميروس لم يكتب الالياذة، إنما كتبها تاميريس، الشاعر اليوناني، الذي هزمته ربّاتُ الشعر، في مبارزة شفوية، فكسرت أرّغنَّهُ، وافقدته البصر.  
يختصرُ المبصرون العَمى بالألوان، فهم يرون أن الأعمى لا يرى إلا الأسود منها، بوصفه اللون الوحيد المهيمن على عالمهم، الفكرة التي يدحضها بورخيس أيضاً، والتي يؤكد فيها بأنَّ أحد الالوان التي يتمنى رؤيتها الاعمى هو اللون الاسود، فضلا عن الاحمر، ويعيب على شكسبير قوله: «ناظراً إلى الظُلمة التي يراها العميان». واضح هنا أن الظُلمة تعني الاسود الدامس. وفي مكان آخر سيبدو متفائلاً بما فقد بعماه في قوله «.. على ضربات سيد القمر، الذي في سخريته الرائعة، أعطاني الكتبَ والليلَ معا» الهبة هذه والاقران بين الكتب والليل لا يبدو ظلمةً، ولا لوناً اسودَ، لكنَّ عبد الزهرة زكي وكما بدا لي في كتابه يقترب من الشاعر الانجليزي جون مليتون (1608 - 1674) والذي كان أعمى أيضاً، حيث يقول: «في هذا العالم الشاسع». إذْ يتحسس الاعمى سعةَ العالم بيديه الممدودتين، في رحلة البحث اليومية،عن أشيائه، فيدُ الأعمى وهي تتقدمه تجد الفراغ أوسع مما هو بيد البصير، هذه المهنة، التي لن يكون العمى فيها تعاسةً إنما اسلوب حياة.
 نصوص وقصائد أقول: (نصوص وقصائد) لأنَّ الكتاب خلوٌ من التجنيس- فقد كتب زكي كتابه هذا بقصد اقتران الشعر بالسَّرد، وإن كانَ إلى الشعر أقرب، بما تجعلني أتراجع عن فكرة عمى الزنزانة، وأذهب فيه إلى اختلاق العمى، وهو ما لم يحدث أن كُتبَ عند أحدٍ مثله، إذا ما تأكدت لنا فكرةُ الاختلاق تلك، ذلك لأنَّ معظم قصائد الكتاب تشير إلى شاعر كاتب أعمى، وإنْ تخلّى عنها في قصائد أخر، ونسبها إلى غيره، مع أنَّه في نصّه المعنون (قائمة المؤلفين العميان) ص25 لا ينفي عن نفسه صفة العمى بقوله: «أمام رفوف مكتبته لا يحتاج الأعمى إلى مَنْ يرشده: ويؤكد ذلك في قصيدته (حرية النبتة- ص34) فشجرة الجهنمي التي جاء بها جارُه، قبل عام ارتفعت، وانتشرت، حتى لم تعد تبلغها يداه، والان هو لا يعرف إلى  اين مضت، وفي انصاته المتكرر للموسيقى (الفصول الاربعة- فيفالدي) بخاصة، يؤكدُ عماه، لأنَّ الموسيقى تغنيه عن حركة الجسد وأفعال القراءة والكتابة وسواها: «لا ابلغَ من الموسيقى ومن اقترانها بالصمت في بلوغ أعماق الذات» ص 202.  
  في (..نبض العالم) يتعامل الشاعر (الأعمى) مع البيت وموجوداته من الأواني إلى المكتبة والطاولة المدورة وكوب الشاي الحار وربطة العنق.. مثلما يتعامل مع مصور الطفولة، واصدقاء المدرسة، الاشياء هذه التي ستفقد معانيها بالنظر، لكنها ستتحقق باللمس والأنف والقلب واللسان والاصغاء، هكذا ففي الشعر ونصوص أخر ستتحول جملة الحواس هذه إلى فريق مستشارين، عند الشاعر، الذي سيبدو العالم من حوله دائرياً، فالعين عنده دائريةٌ، والجدران دائرية، وكذلك ستكون النافذة والطاولة وربما سيكون الزمن دائرياً: «أفتح إحدى درفتي النافذة، حيناً من الوقت/ فتمتلئ الغرفة بيومها الجديد وتنشغل عني/ أتركهما معا، الغرفة واليوم الجديد وأغلق النافذة، وأسدلُ الستائر ثم أمضي»(ص13).
في الرحلة الممتعة، التي قادني فيها عبد الزهرة زكي إلى عوالمه، متنقلاً بين عماه الافتراضي وعمى أقرانه من العرب وغيرهم لا أجدُ خاتمةً أجملَ مما كتب في آخر صفحة:
«عاشَ حياتَه كلَّها بعينينِ مفتوحتين
ولمْ يَرَ شيئاَ ..
حينما مات أُطْبِقَ جفناهُ
وقدْ رأى كلَّ شيء».