مهند الخيكاني
إن اختلاف الوعي والادراك بين الأفراد، واحد من أهم أسباب تعدد القراءات وتباينها. يحدث أن يتلقى المؤلف نصه المكتوب في وقت سابق، بحلة جديدة تحمل فصالا وألوانا وتفاصيل أخرى لم تكن حاضرة في زمن كتابته أو بعد الانتهاء منها في القراءة الجديدة. فكيف إذن بالمتلقي؟.
وكلما كان المؤلف/ الفنان/ القارئ الأول أكثر اطلاعًا على شتى العلوم والفنون القريبة والبعيدة من اختصاصه، زادت في عمق وسعة ايغاله، وكأنّه يرى انعكاس ما خبِره بشكلٍ جزئي في الشيء الذي يغوص فيه، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى وجود مفاتيح لفتح أبواب صغيرة لغرفٍ فيها معرفة نسبيّة، تقود إلى مفاتيح أخرى لفتح بواباتٍ تخفي خلفها ما يكمل تلك المعرفة النسبيّة.
فلا يرتقي الإنسان إلى مرتبة الفنان، ما لم يكن قارئًا يمتلك مجساتِ وأدواتِ الكشف والرصد، تلك التي تقود القراءة الأولى قبل التدوين إلى أدوات الكتابة/ التدوين، فيظهر عندنا النص، من ذلك بقيت هذه العبارة متداولة بكثرة "الشاعر الجيد، قارئ جيد"، مع توخي الدّقة في جعل هذه العبارة أكثر شمولية وذلك بإبدال الشاعر بالفنان، فالفنان الجيد هو قارئ جيد، والقارئ هنا ليس القارئ الثاني، القارئ لما هو مدوّن أو مرسوم أو منحوت، بل الإشارة إلى القارئ الأول الذي يضع مجساته في مناخات الغموض والضبابيّة، حيث تمارس الأشياء لعبة التخفي والتواري كسلوك طبيعي من ضمن مسالك وجودها في العالم.
إذن هناك نوعان من التلقي والقراءة يمتلكهما الفنان، فهو قارئ لما هو شاخص وواقع وملموس وهو "القارئ الثاني"، وقارئ لما هو مختبئ ويسكن في الظل وهو "القارئ الأول".
يقابله "المستقبِل"/ المتلقي الاعتيادي أو الجمهور الذي هو "قارئ ثانٍ" لما هو ماثلٌ أمامه فقط. وعلى الرغم من أن القارئ على وجه العموم يعتبر مؤلـفًا جديدًا للنص، إلا أننا نميّزه عن القارئ/ الفنان، بكونه يفتقر إلى الموهبة والخبرة والأدوات اللازمة لإعادة انتاج المقروء، فضلا عن محدودية قدرته على الابتكار تقف حائلا من دون تفوقه أو تميزه، حيث يمكن له في أقصى الأحوال أن يصبح بارعًا بفعل الممارسة والاجتهاد، لكنه سيظل يعيد انتاج ما هو ماكث في الحياة أساسًا على هيئة عمل فني آخر ينتمي للشعر أو الرسم أو النحت.. الخ .
لا بدَّ من وضع يد مُحكمة على العلاقة الرصينة بين فعليّ القراءة والكتابة، ذلك أن كثيرًا من قناعات القراءة وقبول المقروء وتذوقه من أعلى سلسلة في الأهمية إلى أدناها، تنعكس بطبيعة الحال على فعل الكتابة، هما مرآتان لبعضهما إلى حد كبير، على الرغم من أن "فعل القراءة" أوسع وأشمل من فعل الكتابة، لما يتضمنه من حاجة للفحص والتشخيص وعمومية الاطلاع، ففي الوقت الذي تحتاج القراءة فيه إلى الشمولية في التقصي والاكتشاف والتعرّف والاقتراب من كل شيء في الحياة والكون، تتصاعد سمة الخصوصيّة في فعل الكتابة أكثر، وهما في هذا السياق متعاكسان، على الرغم من وجود علاقة تقابليّة، فجودة الكتابة تكمن أيضًا بما فيها من خصوصية عالية في الكيفية التي يزج بها المؤلف أفكاره وخيالاته. إنَّ! "القارئ الأول" الذي نتحدث عنه هنا، يختلف عن القرّاء الذين صنفتهم نظريات القراءة العديدة، كالقارئ الأنموذج والقارئ الجامع والقارئ الخبير والقارئ المرتقب والقارئ المثالي والقارئ الملتزم والقارئ المستهدف والقارئ التاريخي وغيرهم، حيث أنهم قراء موجودون أو مفترضون لكنّهم يحضرون عند فعل القراءة أمام النص بعد التدوين، أما القارئ الأول فإنه يجري عملية القراءة قبل التدوين، أي في مرحلة التخييل والتفكير معا بمساعدة اللغة مدعّمًا بخبراته، وما يميز هذا القارئ أنه لا بدَّ من وجوده وحضوره التام لدى الفنّان على اختلاف وتنوعات الفنون. إنّها اللحظات التي تمتزج فيها وتتماهى شخصية المنتِج بشخصيته كقارئ/ متلقي، حيث تكون اليد العليا خلال ذلك الوقت لشخصيته كقارئ وبمجرد البدء في العمل الفني أو النص في مرحلة تدوينه، تكون اليد العليا للمنتِج/ الفنان/ الكاتب.
هي عملية تشبهُ كفّتي ميزان، أما الوقت الذي تتساوى فيه الكفتان يحدث عندما يلجأ المنتِج إلى التذكر واستعادة ما جناه من سياحته التخيلية والفكرية عبر الفضاءات وعوالم الأشياء عندما يستعد ذهنيًا، ويبدأ بتخيل ما سيكتب قبل الكتابة، وأحيانا يحضران معًا بشكل متوازٍ أثناء عملية الكتابة، حيث يعمل القارئ الأول هنا عمل الناقد الذي يشذّب ويستخلص وينقّي ويدقق ما لديه من مادة هي لا تزال في طور "اللاتشكل" بالنسبة لنا، ويدفع بها إلى مرحلة التشكل.