دربند : شواهد إيمانيَّة تؤرِّخُ لانتشار الإسلام في شمال القوقاز

ريبورتاج 2023/10/15
...

  داغستان: محمد حسين الداغستاني



على حافات بحر قزوين (الخزر) تستكين مدينة دربند التي ترد في المصنفات الجغرافيَّة العربيَّة باسم (باب الأبواب) وهي ثاني أكبر مدن جمهوريَّة داغستان إحدى الجمهوريات ذات الحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي، وفيها تقع قلعتها الحصينة التي شهدت وقائع تاريخيَّة وحروبا فاصلة غيّرت مسار التاريخ في مجمل حواضر شمال القوقاز.
دربند كانت دومًا مبعث اهتمام علماء الآثار الذين يعتقدون أن قبائل مختلفة استقرّت فيها منذ خمسة آلاف سنة. وبرهنت العديد من القطع الآثاريَّة على أن المدينة الحالية التي تأسست أسفل قلعة (نارين) قبل ألفي سنة، كانت تنتقل من فاتح إلى آخر عبر القرون ومنهم بطرس الأكبر الذي استولى على المدينة في العام 1722، ثم توالى عليها الغزاة لحين فتحها من قبل المسلمين إثر الحملة التي قادها عمرو بن سُراقة في سنة 20 هـ ثم توالت الفتوحات في هذه المنطقة وتأكدت في عصر الدولة الأمويَّة.

يقول السيد عبد البصير ابكارو المساعد لشؤون العلاقات الدوليَّة  لوزير السياسات الوطنيَّة في داغستان إنَّ دربند التي يعود تاريخها إلى سبعة آلاف سنة فيها العديد من المعالم الاسلاميَّة البارزة وكانت إحدى أهم المعابر الرئيسة التي انطلق منها المسلمون لنشر رسالة الإسلام السمحاء في دول آسيا الوسطى وبلاد روسيا وشرق آسيا ومناطق شمال القوقاز.


(جيليزنايا فراتا)

وكون دربند تحفة معماريَّة وفنيَّة راقية فإنَّها كانت وتبقى مبعث اهتمام السياح والزوّار الذين يتقاطرون إليها من بلدان العالم المختلفة. وقد سُمِّيتْ بأسماء كثيرة مختلفة ولكن جميعها كانت مرتبطة بكلمة البوابة. لأنَّ التسمية الفارسيَّة (دربند) تعني قفل البوابات. فيما أطلق عليها الروس لاحقا اسم (جيليزنايا فراتا) اي الباب الحديدي. كما أطلق عليها اليونانيون اسم "الممر الألباني" والروم "بوابة الخزر"، أما العرب فسمّوه (باب الأبواب) لأنَّه الممر الذي قاد المسلمين إلى فتح بقية مناطق شمال القوقاز.

 

دربند وبلاد الرافدين

في قلعة نارين المهيبة يتوقف الزائر مبهورًا أمام سوره العظيم، ويقول المسعودي في مروج الذهب، إنَّ كسرى أنوشيروان بنى هذا السور وجزءه من جَوف البحر سنة (332 هـ) بطول ميل بالصخر والحديد والرصاص، ويُسمّى هذا المَوضع من السور في البحر الصدّ. وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، وكان هدفه منع مَراكب الأعداء في البحر من الوصول إلى القلعة. ثُمّ مَدَّ السور في البرّ ما بين البحر حتى أعالي الجبال ومنخفضاته وشِعابه (أي سَدَّ جميع الخلل والفُرج هناك) ونحوًا من أربعين فرسخًا إلى أن ينتهي إلى القلعة. 

في القلعة اِلتقيت بالبروفيسور بدر خان فصيح، كبير الباحثين في معهد الاستشراق التابع لاكاديميَّة العلوم في موسكو، فقال: لقد كنا مجموعة من الآثاريين ننقّب في أرجاء القلعة التي كانت محاطة بأسوار تمتد 70 كيلومترًا داخل الجبال وهي بناء عظيم يفوق إنشائها طاقة البشر آنذاك، فوجدنا مجسّمًا لتمثال عشتار وهي آلهة الحب والجمال عند حضارات منطقة بلاد الرافدين، والتي وثّقت عبادتها في أوروك في الألفيَّة الرابعة قبل الميلاد، وهذا الاكتشاف عزز الرأي أنّه كانت لسكنة المنطقة علاقات مع بلاد الرافدين قبل نحو 5000 عامًا، ويبدو أن الأهالي جلبوا هذا المجسم ووضعوه في مخازن الحبوب أو الطحين بقصد جلب البركة واليمن، كما وجدنا هيكلًا عظميًّا كبيرَ الجسم للقائد العسكري (نالوج) وهو من قبائل الهون وبجانبه سيف حديدي وخنجر برونزي وقد دفن معه أيضا رأس حصانه، وعثرنا معه أيضا على خمس جماجم قد تكون لعبيده الذين تمَّ دفنهم معه وفق عقائد هذه القبيلة التي عبرت القلعة في بداية الألفيَّة الأولى في سياق هجرة الشعوب العظيمة باتجاه أوروبا.

وأضاف فصيح، أن سور القلعة الذي شيّده الفرس خلال احتلالهم لها نجح فعلًا في حماية القلعة وأهلها من محاولات الأعداء لحين وصول طلائع المسلمين الذين بعد حصار طويل لها دام عدة أشهر استطاع القائد الأموي مسلمة بن عبدالملك بن مروان بدهائه من إيجاد منفذ تحت ركن من أركان السور كان يؤمن المياه لسكانها، فلوثها بدماء الحيوانات، فاضطر السكان بعد أن تمكن منهم العطش والخوف إلى مغادرتها فدخلها المسلمون فاتحين. 


مقبرة الأربعين من الصحابة    

فضلًا عن ملحمة فتح قلعتها الشامخة التي تشرف على المدينة بمواجهة بحر قزوين، هناك شواهد إيمانيَّة فيها تؤرّخ للوجود الإسلامي، ومنها مقبرة تضم رفاة أربعين من صحابة الرسول (ﷺ) الذين استشهدوا خلال الفتوحات أو أثناء جهودهم لنشر تعاليم الإسلام. وأشارت الروايات التاريخيَّة إلى أن أبرزهم هو الصحابي الجليل "حبيب بن مسلمة الفهري"، الذي كان أحد رواة الحديث عن النبي الكريم. 

وخلال زيارتي للمقبرة، رافقني السيد إلهام نصرت بيك أوغلو مسؤول شعبة سياحة دربند الذي أضاف، أنه لم يتم التعرّف بشكل دقيق على رفاة الصحابة الكرام الذين تضمّهم المقبرة باستثناء كل من الصحابيين عبد الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة من دون بقية الصحابة، وقد جذب انتباهي أن طول القبر الواحد منهما أكثر من 2.5 متر وربما يقارب ثلاثة أمتار، وأكد السيد إلهام، أن المقبرة تلقى عناية فائقة من لدن السلطات والسياحة، وقد تمَّ بناء جدارٍ وسور لها في العام 1964م لحمايتها وفصلها عن بقية القبور.  

 

مسجد الجمعة

كانت محطتي التالية زيارة مسجد الجمعة الذي يقع في القسم القديم من مركز مدينة دربند، وهناك التقيت السيد فرهاد عليوف محاسب المسجد الذي قدم شرحًا مفصلًا عن تاريخ المسجد المشيّد في العام 734م والذي لا تزال الصلاة قائمة فيه ليومنا هذا رغم عاديات الزمن وتعرّض جزء منه إلى زلزال عنيف في العام 1368م.

ووفق المصادر التاريخيَّة فإنَّ المسجد ليس من أقدم مساجد داغستان فحسب وإنّما هو واحد من أقدم مساجد العالم. ولا يزال بيت العبادة هذا يبهر زواره بزهائه وهيبته وعمقه التاريخي. ويفتخر سكان المدينة جدًا أنّها الأرض المباركة وأن مسجدهم هو الاول في روسيا ومنه بدأ انتشار الإسلام في القوقاز وحتى في عموم روسيا. ويضم المجمع المعماري للمسجد المسجد نفسه ومدرسة دينيَّة ومقرًا للأئمة. وهذه المباني تتوافق شكلًا مع عمارة القسم القديم من دربند. حيث تقع على مقربة من قلعة نارين وحمام الخانات وخان استراحة وهذه المنشآت يعود تاريخها إلى القرون الوسطى. وقد شيّد الصحابة المسجد في عهد أبو مسلم وتمَّ بناء سبعة محالات متنوّعة بأسماء أهل البلاد الفاتحين حيث كان هناك محل باسم العراق وآخر باسم الشام والثالث باسم الحجاز وهكذا. ولا تزال في باحته وحديقته أشجار يعود عمرها إلى ما بين 500 ـ 800 عام.

عدتُ إلى عاصمة داغستان محج قلعة التي تبعد عن دربند نحو 130 كيلومترًا. وطوال الطريق كنت لا أزال مندهشًا لكيفية نجاح المسلمين بمراكبهم من تجاوز الصد الفولاذي الممتد من الساحل إلى داخل بحر الخزر ثم استغلال المنفذ الوحيد للمياه لدخول القلعة الحصينة التي صمدت قرونًا بوجه الأعداء لكنّها رضخت في النهاية لدهاء وإرادة الفاتحين المسلمين.