في شعريَّة الومضة

ثقافة 2023/10/18
...

  د. كريم شغيدل

 يندرج تحت مظلة مصطلح (الأدب الوجيز) نمطان من الأدب هما قصيدة الومضة والميكروقصة أو القصة القصيرة جداً، وكلاهما له جذوره ومرجعياته وعوامل نشأته وتكريسه، ويلتقيان في نقاط متعددة، أهمها الإيجاز والتكثيف، ثم التمركز حول جوهر دلالي محدد وقابل للتأويل، وهناك محاولات لكتابة مسرحيات قصيرة جداً، كما هناك أفلام سينمائية قصيرة أو قصيرة جداً، وهناك لوحات تشكيلية أو مجسمات نحتية صغيرة جداً أو منمنمات، فالتكثيف والإيجاز سمة عصرية طالت مختلف أنماط الأدب والفن.
 ويمكن القول إن النص الموجز نص مفتوح؛ لا بالمعنى الاصطلاحي للنص المفتوح الذي يعني عكس ما هو عليه النص الموجز، أي النمط الكتابي المتسع حجماً وتداخلاً أجناسياً، بل بمعنى الانفتاح الدلالي والمساحة المتاحة لتأويل القارئ، وقد ينطوي على شيء من الرمزيّة والتلميح، لا سيما في النمط الشعري، أو المقطعات الشعريّة التي تدور حول ثيمة معينة.
والدارج أن الشعر أقرب إلى مفهوم الشعريّة، بصرف النظر عما نجده من نصوص يتداخل فيها جنسا النثر والشعر، فبعض القصص القصيرة جداً تقترب من الشعر بقدر ما تقترب بعض القصائد القصيرة من البنية السردية للقص، وما دام الحديث عن شعرية الأدب الوجيز عموماً نرى أن قصيدة الومضة أو القصيدة القصيرة جداً لا قيمة لها ما لم تحقق انزياحاً ما شكلاً ومضموناً، سواء على مستوى اللغة أم المدلول.
فعلى سبيل المثال يقول الشاعر الراحل عبد الأمير جرص في إحدى قصائده القصار: "كثيراً ما سبقني الذبابُ/ إليكِ/ أيتها الأيام الحلوة" مفارقة دلالية واضحة، فالذباب يجتمع على ما هو حلو مادياً، لكن هنا سبق الشاعر إلى حلو معنوي، إذ توصف الأيام السعيدة كما متداول بالحلوة، الأمر الذي أعطى مدلولاً معاكساً للأيام الحلوة، فالذباب يجتمع على القمامة وما يتخللها، وللنص مساحة للتأويل، بعد اللعب على دلالة الوصف المجازي (الحلوة) وربطها بحشرة لها علاقة بالمذاق المادي، ويمكن قراءة مفردة (الذباب) بوصفها استعارة تشير إلى بعض الانتهازيين والنفعيين الذين يملؤون الحياة طنيناً ويزاحمون الإنسان على العيش بسعادة.
وله أيضاً: "كنتُ أعدّكم بأصابعي/ أمّا أنتم، فلا تعدّون/ سوى/ أصابعكم" إذ اشتغل النص على التكرار لتحقق بنية الغياب والحضور، بين الأنا والآخر، الأصابع وفعل العد، ويمكن تأويل النص لأكثر من مدلول، وكأن الذات الشاعرة التي لم يدرك كنهها الآخرون تعد الآخرين أرقاماً، ومدركة لحقيقة وجودهم، لكنها حاضرة في سموها لدرجة عجز الآخر عن إدراك حقيقتها، أو أن الذات الشاعرة هي من تشعر بالوجود الإنساني للآخر بينما لا يرى الآخر إلا أناه وهكذا.
وللشاعر عبد الزهرة زكي قصيدة ومضة بعنوان (ورقة): "يا حياتي/ هواءٌ عاصفٌ أنا/ ورقةٌ أنتِ../ ما إن تستقر/ حتى تطير." لقد تبنى النص مفارقة دلالية مركزة بين الأنا والحياة، أنا الشاعر العاصفة والحياة التي شبهها بالورقة التي أرادها في حالة طيران/ قلق/ زوال/ غياب/ تسامي/ تحليق/ هرب/ اختفاء إلخ.. في اللحظة التي تستقر فيها تطير بسبب قلق الأنا وهياجها الدائم وثورتها وتمردها على ما هو راكد ومستقر، وإذا أولنا المدلول من باب التناص مع الدلالة المتداولة لمفردة (تطير) في الاستعمال اليومي بمعنى تختفي، فتكون حياة الشاعر محض غياب، المتوقع تعبيرياً أن يشبه الشاعر الحياة بالعاصفة ويشبه حياته بالورقة، وهو معنى متداول، لكن النص كسر أفق التوقع بمدلول معاكس وهو ما حقق شعرية النص، وفي نص آخر بعنوان (لوثة) يقول: "على العشب الزاهي بخضرته/ روثُ حيوانات مرّت قبلنا./ .............../ الأزهار وعطورُها لا تكفي لنفتح أنوفنا بحريّة". وهذا النص فيه من الإيحاء والتلميح بقدر ما فيه من الرمزية، اتخذ من الطبيعة دلالات رمزية (العشب، الأزهار) ومن التشبيه تلميحاً وصفيا لما هو رمزي (العشب الزاهي بخضرته) دلالة على الحياة، ومن الحيوانات رمزاً مفتوحاً ومما تخلفه من فضلات رمزاً سلبياً دالاً على التلوث، ولغاية هنا الأمر مرهون بتلوث بيئي، وقد يحيلنا النص إلى قراءة تنطلق من النقد البيئي بتوظيف العلاقات بين الإنسان والبيئة وما تسهم بتفعيله من نماء أو تدمير لحياة الإنسان، ثم يترك النص جملة بيضاء (سطر نقاط) تدل على وقفة تأمل أو صمت أو مرور زمن أو تضمر تفاصيل متروكة للقارئ بحسب وعيه ومخيلته، ثم ينتقل إلى خطاب آخر يبدأ بالطبيعة أيضاً وينتهي بمفهوم إنساني وجودي هو (الحرية) وكأن النص أراد تحقق مدلول أخلاقي/ وجودي هو أن الذين عبثوا بالحياة صادروا حرية الإنسان.
وهناك الكثير من الومضات الشعرية العميقة التي تحقق شعريتها بتعبيرية مدهشة وببناء خارج المألوف، وللشاعر عبد الكريم كاصد قصيدة بعنوان (لقطة في حلم): "هذا الجبّ المحفور في الهواء/ من ألقاني فيه؟" بمنتهى البساطة اللغوية والتعبيرية والبناء، وببنية تساؤلية، يستدعي النص قصة نبي الله يوسف (ع) من خلال مفردة (الجب) لكنه ليس على الأرض، وهذه أولى التماعات النص في كسر أفق توقع القارئ، فالجب محفور في الهواء، ثم صرخة الذات الشاعرة (من ألقاني فيه) والنص من عنوانه عبارة عن لقطة في حلم، فمنذ العتبة الأولى يكشف النص عن كونه إيهاما خارج الواقع، أو عن معاناة الواقع وصراع الذات اللذين يتجليان بصورة كابوسية في الحلم، والنص عبارة عن جملة واحدة إذا ما تمت صياغته بطريقة سياقية فنقول (من ألقاني بهذا الجب المحفور في الهواء) وهنا ستضعف انزياحيَّة التركيب اللغوي، إذ قدم النص المكان المتخيل بمرجعيته الدينيَّة أو الثقافيَّة على السؤال المصيري، والهواء يمثل الحياة والحرية وحين يتحول إلى جبٍّ للقمع وكبت الحياة وقتل الآخر أو إقصائه ستكون الحياة عدماً، وبهذا يكون النص على كثافته حقق شعريته على مستويات عدة لغة وبناء وتوظيفاً فنياً ورؤيوياً ومدلولاً.