{تأملات حوّاء} في الحُب والأمومة والعلاقات الحميمة

ثقافة 2023/10/19
...

 عدنان حسين أحمد


احتضن مركز "بهافان" الفني في لندن معرضا شخصيا جديدا للنحات العراقي ناظم الجبوري، وقد ضمّ 26 منحوتة تسيّدت فيها المرأة على نظيرها الرجل، لكنها تعاضدت معه في بعض الأعمال الفنية وتماهت مع شخصيته إلى درجة الحلول والذوبان الصوفيين. 

وقبل الخوض في ثيمات هذا المعرض، لا بدَّ من الإشارة إلى تأثر الجبوري بأستاذه النحّات التجريدي عبدالرحيم الوكيل، كما يمكن للمتلقي الحصيف أن يستشف من أعماله النحتية لمسات أوغست رودان الانطباعية وتنقيطية فان كوخ، التي تتفتت فيها الأشكال، ويغيب فيها الموضوع إلى حدٍ كبير. وعلى الرغم من أوجه التشابه والاختلاف بين الجبوري وبعض الفنانين الحداثيين الذين اقتدى بتجاربهم الفنية المتفردة، إلّا أنه يحافظ على وحدة الثيمة ولا يميل إلى تهشيمها، بل على العكس من ذلك فهو يؤكدها في كل عمل نحتي على انفراد. يركز الجبوري في هذا المعرض على مشاعر وأحاسيس المرأة وهواجسها الأخرى مثل الحُب، والأمومة، والصداقة، والفرح، والحزن، والخوف، والقلق، والترقّب، والتوتر، والاسترخاء، والعلاقات الحميمة مع الحيوانات الداجنة وما إلى ذلك. ففي منحوتة "أنانا"، وهي إلهة الحُب والجمال، التي جسّدها الجبوري كرمز للخصوبة ومنحها هذه الهيبة المظهرية المثيرة، سواء باستطالة القسم العلوي أو سعة الحوض واستدارته. 

أمّا في منحوتة "العشّاق" فيرصد النحّات ثنائية المرأة والرجل ويركز على آصرة الحُب التي يمكن أن تربط بينهما إلى الأبد. بينما تكشف منحوتة "الرقصة الأولى"، التي تحدث بين العاشق والمعشوقة في ليلة الزفاف عن النزوع العاطفي الذي يتمناه الفنان ألاّ ينثلم أبدًا. تشكّل حواء رمزًا جمعيًا لكل النساء، لكنها تأخذ تارة شكل الإلهة كما في "أنانا"، وتارة أخرى شكل المرأة العادية كما في "المرأة والطير"، التي حيث تغمر حواء هذا الطير بمحبة لا حدود لها، وسوف تتكرر هذه العلاقة بين "المرأة والكلب"، حيث يميل هذا الأخير إلى "حواء" بينما ينصاع لأوامر "آدم". يوحِّد النحّات في لوحة "الصديقتان" بين امرأتين حتى أنه يدمجهما في جسد واحد لتأكيد هذه العلاقة الحميمة، التي تجمع الكائنين الأنثويين. تحتاج الأعمال الفنية للجبوري إلى قراءة رمزية في بعض الأحيان كما في منحوتة "انتظار الغائب"، حيث نرى المرأة واقفة أمام الباب المفتوح بانتظار الرجل الغائب، الذي يمكن أن يكون زوجها أو ابنها أو شقيقها الذي غيّبته الحروب. 

بينما تتقمّص منحوتة "الترقب" حالة الهلع، التي أصابت العراقيين في تلك السنوات العجاف وأسقطتهم في الحيرة والذعر والذهول. يجمع الجبوري بين تقنية الأشكال والمضامين في أعماله النحتية، فهو يفيد من شكل الثوب العربي "الدشداشة" في مجمل منحوتاته، لكنه يطعّمها برموز سومرية تأخذ شكل الرياش، التي تطرّز الحافات السفلى من الثياب. كما أشرنا سلفًا إلى التقنية التنقيطية التي استعملها في بعض منحوتات هذا المعرض.

ومن يدقق في الأعمال الفنية لهذا المعرض سيجد أنها تعبّر في مجملها عن المشاعر والعواطف الإنسانية، التي أشرنا إلى بعضها في مستهل المقال والحركات والأوضاع الجسدية، التي تأخذ تأخذ التحليق والتسامي كما في منحوتة "الراقصة" أو "الاحتضان" أو "العشّاق" بينما تمثل منحوتة "الثور"، التي نحتها بطريقته الخاصة، التي تُحيل إليه كرمز للقوة والعنفوان والثورة، بينما أخذت منحوتاتٌ أخرى طابع التقوقع  والانتكاس كما في منحوتة "الانكسار"، بينما ذهبت "لحظة العبادة" إلى الطقوس الدينية وما يتخللها من خشوع وتضرّع واستكانة. يمكن القول إنّ معرض "تأملات حوّاء" الذي تشكّل المرأة عموده الفقري، يعبّر عن نقاط القوة والضعف ويرصد العلاقات الإنسانية مع الذات ومع الآخرين على حدٍ سواء. 

بقي أن نشير إلى أنّ النحات ناظم الجبوري من مواليد بغداد. درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد، ثم واصل دراسته في المعهد العالي للفنون الجميلة في بلغاريا. اشترك في العديد من المعارض الشخصية والجماعية، خاصة في صوفيا ولندن ومتحف موسان للفنون في كوريا الجنوبية.