الخشّابة.. فن الهروب من الاضطهاد

ثقافة 2023/10/24
...

  البصرة: صفاء ذياب

يطرح الشاعر طالب عبد العزيز تساؤلا مهماً في الجلسة التي أقامها له اتحاد الأدباء والكتاب في مدينة البصرة مساء يوم السبت الماضي، وهو: لماذا ارتبط فن الغناء والرقص والخشابة بالبصريين، من ذوي البشرة السوداء، من دون غيرهم؟ ولماذا تواتر هؤلاء على تقديمه في المناسبات السعيدة إلى اليوم؟، ليقوده هذا إلى البحث في أصول الفن العريق هذا، كيف ومتى عرف بين طائفة الزنوج في البصرة، ومن هم الذين أسسوا له، ومن أين تأتّى لهم.ويسرد عبد العزيز، في سبيل الوصول لإجابات عن أسئلته تلك تاريخ وصول ذوي البشرة السوداء إلى البصرة، وكيفية اضطهادهم على مرِّ الأزمنة، فقد تغلب منطق سيادة الأبيض على الأسود، تصريحاً أو تلميحاً، وساد الأبيض على الأرض، فيما ظل الأسود تابعاً، فلاحاً، أجيراً، خادماً، تحت مسمى واحد هو العبد، حتى ظن الناس أن كل شخص أسود هو عبد، رقيق مملوك، فيما القاعدة تقول بأن العبودية شيء ولون الإنسان شيء آخر.
مضيفاً: وعلى اختلاف الأزمنة ظل الإنسان هذا هامشاً في تركيبة مجتمع الجنوب العراقي، وفي البصرة تحديداً، فلم يمتلك المال، ولا الأرض ولم يتاجر، ولم يمتهن المهن الرفيعة، بل وحرمته السلطة الدينية– السياسية من أن يكون فقيهاً أو عالِماً من علمائها، أو خطيباً إماماً في مساجدها، أو شيخ قبيلة ينتسب لها، وبذلك جُعلت الوجاهة الاجتماعية خصيصة غيره، فأفردته في تيه ذاته، فهو مسلم صحيح الإسلام، لكنه محدود النفوذ فيه، مهما جدَّ واجتهدَ، لأنَّ درجته الاجتماعية التي سبّبها لونه له لا تؤهله إلى أبعد من وجوده في خدمة سيّده الأبيض، وهكذا، ظلَّ رهين بيت متواضع صغير، بناه سيّده له، فهو يقوم على خدمة ضيوفه في الليل، ومكانه الوحيد في المضيف قرب موقد القهوة، يقلب جمر الموقد، ولا يتقي النار، فالدخان لا يُغير من رائحته ولون وجهه، لكنه مجبرٌ على العناية ببستانه، يرعى ماشيته، ويجلب الحشيش لأبقاره، ويحرس تمره، ويجمع بيض الدجاج لسيدة منزله، ويبعث به سيده إلى من يريده، فهو حامل بريده، والساهر الأمين على حراسة تمره وأبقاره ومنزله.

طريق النجاة
هذه التمهيدات التي طرحها عبد العزيز، أوصلته إلى خلاصة مهمة، تقول: لهذا كان التعب والجوع والسهر والذلُّ محرّكات روحه المقهورة، ولكي يوائم بين صمته وخوفه راحت أصابعه تتحرّك، تبحث في مقتنيات المنزل عن شيء تصفعه، تتحرّك فيه، هناك همهمة في النفس تسلّلت إلى شفتيه، قالت شيئاً، وأصابعه ضربت خشباً فصدر عن ذاك ما يشبه النشيج، هو مزيج من بكاء وغربة ووحشة، صوت يشبه خفق جناح طائرٍ، رطبٍ نزل عليه دمع كثير، من اللحظة الهامدة في التاريخ بدأ. راح الرجل الأسود، ذو القدم المقرّحة، وصاحب الكف التي اعتادت تسلّم الهبات والمنح من سيدها، وفي ليلة شتائية، ماطرة، شديدة الظلام، كثيرة الذئاب، نادرة الوقوع، ابتدأت أغنيةٌ، سيسجل التاريخ موسيقى سلّمها الغريب على جذع نخلة.

فن الخشابة
هذه القراءة التي قدّمها عبد العزيز، جعلته يجزم أن فن الخشابة صنيعة البصريين من أصول أفريقية، توارثوه عبر الأزمنة، وظلَّ حبيس وخصيصة أرواحهم وأيديهم، ذلك، لأنَّ التشريع الإسلامي كان يحرّم الغناء والرقص، وهم حديثو عهد بالدين، الذي نُقلوا اليه، وكانت الطبائع الاجتماعية تشنّع على المسلم، من أهل البلاد ذلك، لذا، ظلَّ الفن الجميل هذا خصيصة أبناء الطائفة الزنجية، فتغنّوا به بما حملوه معهم من شجن وشكوى، ومع ما في أرواحهم من ميل للعزف وقرع الدفوف، لكنَّ الهوى غالبٌ، فالغناء والرقص والميل جوهر في النفس الإنسانية وحاجة في الجسد الحي، فمال معهم من أهل المدينة من لم يقوَ على البقاء صلداً، متماسكاً، واندمج في عالمهم من لم يجد بدَّاً من ذلك، ومع الاختلاط وذوبان الفوارق بين الأسود والأبيض بعد دخول هؤلاء الإسلام، ووقوفهم في المسجد للصلاة جنباً إلى جنب، ومن ثم اتساع رقعة التعامل معهم، ولمعرفتنا بطبيعة المجتمع البصري المرحّبة بالغريب، والمستطيعة على تقبّله في نواحي الحياة بعامة، وجدنا المجتمع البصري برمّته مندغماً مع الفن الجميل هذا، والمعبّر عن الروح البصرية الميّالة إلى الطرب والغناء والرقص والفكاهة.
ويؤكّد عبد العزيز أن المكيد خصيصة زنجيَّة، لا علاقة لها بسكّان البصرة الأولين، أو الذين هاجروا إليها من الحجاز، وهو مكان يمارس فيه الزنوج الأفارقة طقوسهم، ونقصد بهم جماعة النوبان (من النوبة) والمكان هذا بمثابة الحسينيَّة عند الشيعة، أو التكية عن أهل السنة، مع اختلاف الطقوس، بكل تأكيد. يجتمعون فيه، أو يتحلّقون حول أشياخهم، ويترنّمون بأغانٍ خاصة بهم وبلهجتهم التي حملوها معهم، ثم يرقصون على قرع أخشابهم وهكذا، ظلوا داخل كانتون مغلق، لكنّه ضاق بهم في النهاية، لذا، ولكي ينأوا بأنفسهم عن التضييق والرفض، فقد أضفوا على المكيد صبغة الأسلمة والتديّن والتقرّب إلى الله، فأدخلوا في أشعارهم وأناشيدهم وحلقاتهم الخاصة أقوالاً تسبح باسم الله، وتمجّد النبي والصحابة، وأهل البيت وأصحاب الطريقة الصوفيّة، لكنّهم، في الحقيقة كانوا يبحثون عن الصورة الأقرب إلى الحرية المضيعة، التي كانت لهم هناك، وما إدخال الدين والشعائر والطقوس الإسلامية، إلَّا الوسيلة المثالية لإيجاد المتنفّس الأوسع للروح الزنجية المقموعة دينياً واجتماعياً.

المكيد وفرق الخشابة
ويرى عبد العزيز أن المكيد هو المكان الأول لانطلاقة الخشابة، وأنَّ الحفلات التي كان يقيمها جماعة الزنوج بمناسبات التزويج والختان والنجاح خارج المكيد كانت بمثابة الخطوة الأولى لدخول الخشابة وجماعة الكيف عالم المدينة، بعد أن كان المكيد دائرة مغلقة عليهم، وأنَّ الحياة البصريّة بتوسعتها في الزمن، وقبولها الآخرَ الجميل كانت قد منحتهم الفرصة للخروج من المكان الضيق ذاك إلى فسحة المدينة، الهاضمة لكلِّ تيار وفكر وفن فيها.
وينقل عبد العزيز في حديثه عن أصل الخشبة كلام محمد بتور؛ وهو من أقدم رؤساء فرق الخشابة في البصرة، بأنَّ التسمية جاءت من الخشب، حيث يؤخذ مقطع من شجرة بقطر معين، ويحفر من الجانبين، أحدهما أصغر من الثاني، ثمَّ يؤتى بـ (الرگم) وهي قطعة من جلد الحيوان، مدبوغة ومعمولة لهذا الغرض، فتلصق على فتحة الخشبة الكبيرة، ولم تكن الخشبة من الفخار قبل ذلك. ويقول محمد بتور في لقاء تلفزيوني أجراه الفنان قصي البصرة منتصف الثمانينات بأنَّه من عائلة تمتهن النجارة، فقد كان والده بتور نجاراً قبل أن يكون خشاباً، أما تسمية الخشبة بالدنبك فهو من الإيقاع المنتظم بالضرب عليها (دم تك تك دم). وكانت فرقة الخشابة تسمّى (شدّة) فيقولون شدّة فلان، وكانت تسمّى على اسم الكاسور، فهو الرئيس، وكان الغناء فيها يعتمد على ضبط ايقاع الاصبعين (السبابة والإبهام) والضرب بالقدم على الأرض، والتصفيق باليد، قبل أن تكون الخشبة (الدنبك) في أماكن خاصة، ديوان لأحد الميسورين، أو بستان على نهر، هناك نوع من الخشية والحياء لم يستمر طويلاً، حتَّى باتت شدات الخشابة تظهر للعلن في مناسبات الأفراح مثل الزواج والختان والنجاح. ثمَّ تطورت صناعة الدنابك بعد قيام أصحاب معامل الطابوق بتصنيع الخشبة من الفخار، ويسميه بتور بـ (الگحف) الذي بات الشكل النهائي للدنبك.

الغناء البصري
ويشير عبد العزيز إلى كلام عازف الخشابة سعد اليابس بأنَّ الفنون الشعبية ارتبطت بفن الخشّابة، الذي عُرفت به البصرة منذ عشرات السنين، فكانت بساتين أبو الخصيب والفاو وشط العرب مسرحاً أولياً له، حيث تحيي الفرق الشعبية أفراح الأعراس والمواليد والمناسبات الاجتماعية الأخرى باستخدام دفوف تصنع طبقتها الرقيقة من جلود الثعالب أو الأرانب وتلصق على أسطوانات من الفخار مفتوحة الجانب، وهي الآلة المعروفة بالطبلة أو الخشبة أو الدنبك.
ويرجح اليابس أصل مصطلح الخشابة في بدايته إلى النجارين وصناع المراكب النهريّة، الذين يغنّون على نغمات المطرقة، وهم يصنعون (البلم) وهو الوسيلة الوحيدة للنقل النهري في بداية القرن الماضي، الذي هو امتدادٌ لما كان يعرف في الأهوار بـ (المشحوف). ومن ضربات المطرقة استمد الخشابة إيقاعهم الخاص، الذي اشتهروا به، فأخذه المطربون، وبدؤوا ينظمون على أنغامه كلماتهم الخاصة.
ويقول اليابس بأنَّ العمال وصانعي القوارب من الذين كانت تنتشر معاملهم في مناطق أبو الخصيب والفاو وعلى سواحل شط العرب، كانوا يأخذون بالغناء والتصفيق والطرق على الخشب بأسلوب إيقاعي متميّز في أثناء استراحتهم، وكان الناس الذين يمرّون عليهم يسألون عمّن يؤدي هذا ويكون جواب من يجيب.. أنهم الخشابة، فأخذت التسمية هذه تطلق على كلِّ مجموعة تؤدّي مثل ذلك اللون من الطرب والعزف.