أحمد الشطري
عندما يخرج الكاتب نصه من درج فكره ويضعه أمام أنظار القراء ينتظر أن يجد نوعا من الصدى لذلك الصوت الذي أطلقه، وهو بالتأكيد يجنح في قرارة نفسه نحو الصدى الإيجابي الذي يعتقد أن نصه يستحقه، وإذا ما صادف أن واجهه رأيٌّ سلبي تجاه نصه، فستثور ثائرته سرّاً أو علناً، وقد تأخذه الظنون إلى مناطق خارج الفضاء الإبداعي لتدخل في المساحة الشخصية، ومرجع هذا إلى الاعتقاد الخاطئ بأن النص يعكس شخصية كاتبه أو هو صورة شخصية له، والواقع أن للنص شخصية أخرى بعيدة كل البعد عن الكاتب وإن كان ينتمي له جينيا.
وأزعم أن شخصية النص الجيد هي التي تفوق بعبقريتها وجماليتها شخصية الكاتب وإلا فالتأثير المرجو منها سيكون ضئيلا أن لم يكن معدوماً لو كانت انعكاساً أو صورة حقيقة لشخصية ذلك الكاتب التي لن تكتسب حضورها وقوة تأثيرها إلا من خلال تلك النصوص المميزة.
ولعل من الخطأ أن نصنّف آراء المتلقي التي هي انعكاس لقراءته للنص بالسلب أو الإيجاب، لأنّ كلّ رأي ينتج عن قراءة النص مهما كان شكله هو فعل إثاري، وهو انعكاس لصورة النص وليس لشخصية الكاتب؛ ولذا فليس للكاتب أن يرضى أو يغضب بل عليه أن يفرح بتكشف حقيقة النص لبصيرته المشبعة برائحته والمتأثرة بانتمائه الجيني له.
وغالباً ما يعتقد الكاتب وهو يقدم نصه للقراء أنّه يمتلك سلطة على القارئ، وقد يرى أن تأثر القارئ وإعجابه بالنص هو نتاج تأثر وإعجاب القارئ بشخصه لا بما انطوى عليه النص من جماليات ورؤى والحقيقة أن ذلك التأثر وتلك السلطة التي يعكسها النص على تفكير القارئ إنما هي سلطة النص المجرد، والتي تخضع القارئ وتجبره للتسليم التام لما يتضمنه من آراء وانفعالات وجماليات ولو كانت تلك السلطة للكاتب لما حظيت بهذا التسليم.
وربما نجد في حكايات العرب مثالا وشاهدا يؤيد ما ذهبنا إليه فقد روي أن رجلاً اسمه ضمرة كان يَغِيْرُ على حِمَى النعمان بن المنذر حتى أعياه ونفد صبره فأرسل له (أن أدخل في طاعتي ولك مئة من الإبل) فقبلها وأتاه فلما رآه ازدراه- وكان ضمرة دميماً- فقال (تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه). ومثل هذه الحكاية أن كُثِيْرَ عزة دخل على عبد الملك بن مروان وقد سبقته شهرته وكان نحيفاً ودميماً فقال له عبد الملك: أأنت كُثير؟ قال: نعم. فذكر ذلك المثل.
والمعروف أن كُثير عزة من الشعراء الذين نالوا شهرة واسعة وما زالوا لما في نصوصهم من جماليات وقدرة إبداعيّة احتلت مكانة مؤثرة في نفوس المتلقين.
ونحن هنا إذ نشير إلى سلطة النص الذاتية مجردة من كاتب النص لا نقصد بذلك تجريد النص من حاضنته الجينيّة وما يحيط بها من مؤثرات كما نادت بذلك البنيوية أو رولان بارت بالذات الذي طالب بموت المؤلف والذي جاء في كتابه (نقد وحقيقة) لقد كان مالارميه هو أول من رأى في فرنسا، وتنبّأ بضرورة وضع اللغة نفسها مكان ذاك الذي اعتبر، إلى هذا الوقت مالكا لها.
فاللغة بالنسبة إليه كما هي الحال بالنسبة إلينا، هي التي تتكلم وليس المؤلف. وبهذا يصبح معنى الكتابة، هو بلوغ نقطة تتحرك اللغة فيها، وليس (الأنا)).
ولكننا نقول: إن النص كائن إبداعي يجتمع فيه الواقعي والمتخيل، وإن كان ذلك من صنع الكاتب إلّا أنه لا يعكس صورته التي تتسم بالواقعيّة دائماً، ومن البديهي أن الأول (النص) أكثر ادهاشا واقناعا من الثاني (الكاتب)؛ لما يمثله من عوالم سحرية قادرة على تحريك الركود النفسي لدى القارئ، ومن هنا فإنّ النص ما أن يخرج إلى الحياة حتى يبدأ بفرض سلطته على الكاتب والقارئ معا، بفرضية أن الكاتب سيتحول إلى متلقٍ هو الآخر، وقد يصاب بالدهشة أو الاشمئزاز عندما يقرأ نصوصه بعد فترة من الزمن.
إنَّ عملية انتاج النص الإبداعي غالباً ما تتم في حالة انفصال عن الواقع وتحليق في عوالم الخيال التي تفتح أمام المبدع كنوزا من الجماليات التي يستثمرها في انتاجه للنص، ولعل هذا ما جعل القدماء ينسبون تلك العملية إلى عوالم الجنّ؛ لأنّها خارج إطار التصور التعليلي، ولعلَّ هذا ما جعل فرويد يقول في كتابه (حياتي والتحليل النفسي): «أن مملكة الخيال ملجأ يؤسَّس إبان الانتقال المرير من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع كي يقوم مقام إرضاء الغرائز التي ينبغي الإقلاع عنها في واقع الحياة.
الفنان كالعصابي، ينسحب من واقع لا يرضى إلى دنيا الخيال هذه؛ ولكنه على خلاف العصابي، يعرف كيف يقفل منه راجعاً ليجد مقاماً راسخاً في الواقع. ومنتجاته، أعني الأعمال الفنية، إشباع خيالي لرغبات لا شعوريّة شأنها شأن الأحلام».
ووفقا لذلك، فإن النص الإبداعي يملك شخصية ذات استقلالية معنويّة، من الواجب الاعتراف بها من قبل الكاتب، وفصلها عن ميوله النرجسيّة، والانشغال بالبحث عن تكوين علاقة جديدة مع نص آخر قادر على الاستفادة من الايجابيات والسلبيات التي تظهر على النص السابق.