إحسان العسكري
عندما ترى لوحة تعج بالحياة، فاعلم إنها رُسمت بالألوان المائية، تلك المادة التي جمعت الحيين الماء والنبات.. فلا غرابة إذن أن تبدو الأعمال التي تُرسم بها هي الأكثر جمالاً والأشد حيوية والأقوى حضوراً .. وهو ما سنلمسه في ما تقدمته "مي واها كيم".. تلك القادمة من الشرق، حيث سيول كوريا، والعازفة على أوتار الحياة ببراعة تحمل من الرقة والشفافية الكثير.
إن الاعتماد على السياق البصري في كشف مكامن الجمال يأتي عادة من تأثر الملتقي واندهاشه، وهذه الفنانة تجيد كثيراً هذا الجانب، فجمعها للخيال والواقعية والدقة جعلها متميزة، خاصة في اعتمادها على أسس الجمال الحي. فبين الألوان المائية التي تستخرج غالباً من شجرة "الأكاسيا" والماء رسمت المرأة بإجادة ملفتة، ولامست عبرها أسلوب الحياة اعتماداً على الفن، بوصفه جزءا مهما من حياة الإنسان الكوري.. متجاوزة بذلك فكرة الجمود متكئة على الملامح والحركة، كما في لوحتها (ابتسامة في عقل امرأة)، حيث ركزت فيهما على حركات معينة، فاتخذت من وجه المرأة أساساً انتقائياً لحركات معينة غالباً ما تفعلها المرأة المتميزة. حرصت كيم على إخفاء الابتسامة التي غالباً ما تظهر لتجعل من دلالات العمق تأخذ منحى آخر يدفع المشاهد بالغرق في التأمل والخيال، على الرغم من أن ظاهر اللوحة ليس أكثر من وجه امرأة.. إلّا أن كيم جعلت منها ضبابية ناطقة في مشهد يشد المتلقي وكأنه يستمع لقصيدة غزل.
ولم تكتف كيم بهذا القدر من إيقاظ الدهشة، بل عبرت إلـى مجالات أوسع وأكثر عمقاً في اعتمادها على التصوير الساكن، خاصة في لوحتها سلام الروح التي تعد من لوحاتها المتميزة. إذ تظهر فيها المرأة كاملة ولكن بطريقة الفن القديم - إن جاز لي القول- باعتمادها على استنهاض أسئلة الذات وسحب العين إلى تخيلات واتجاهات مختلفة - قد تكون أحياناً غير مترابطة- فتجمع ما بين اللوحة الساكنة والصراع المثير في رؤية واحدة، سلكت عبرها الفنانة طرقها المتعددة.
إن الانتقالات التي تتأتى من أي عمل تشكيلي تتشعب غالباً وتتعدد اتجاهاتها، وإن كانت في الأساس منصبة على مشهد مُركز حول عمل ما، وهذه هي إستراتيجية القراءة البصرية للثيمة المرسومة.. أي أن هوية الفنان مجردة لا تكفي لقراءته بقدر الاعتماد على ما أخرج هذا الفنان من عمل.
ولا نبتعد كثيراً فالشاهد على هذا الاستنباط هي لوحات "مي واها كيم" ذات الأبعاد القليلة والمشاهدات الكثيرة والقراءات المتجددة، فأنت ربما تقف أمام لوحة معينة مثل (ولدت من جديد)، فتجد أنك أمام التقاطه بسيطة لصورة شخصية امرأة، ولكن في الحقيقة ركزت كيم على جوانب مختلفة في التقاطها هذه، فقد اعتمدت على الأثر الفني لتجرك إلى فك شيفراته وتجبرك على اختراق مكامن اللوحة المتكونة من كتلة علامات ودلالات لونية و حركية، وهنا تتيح للمتلقي أكثر من فرصة لاكتشاف ملامح غائبة ظاهرياً، أو يمكن وصفها بغير المرئية.. وهذا أسلوب تتقنه هذه الفنانة فلها القابلية على جمع لوحاتها في قالبٍ واحد وتشكيلات أيقونية متعددة، وهنا يكمن سر الحياتين الذي أشرتُ له في أعلاه، إذ أن الإنسان بطبيعته سريع الالتقاط بطيء التأثير متقلب الاندهاش وغير ثابت في تقييمه.
وعند العودة لـ مي واها كيم ولوحاتها ذات الطابع العميق والمدرسة، التي تبدو واقعية تختصر الالتقاطات بعض المشاهدات وتتوسع في بعضها، أي أننا أمام إمكانية تصويرية وموهبة متخصصة في العمق الدلالي للعمل، كما في لوحتها (أنا) والتي ابتعدت بها عن أسلوبها الخاص، وخرجت من الواقعية ودخلت ما بين التعبيريَّة والسرياليَّة بأسلوب "البوب آرت"، وكأنها تنعى ذاتها أو توقظ حياة ما، تراها مغيبة عبر طريقة استخدام الألوان ومزجها المختلف عن غيرها من تشكيليات جيلها.. غالباً هي تضع وجه المرأة في دوامة من ألوان هادئة وتشكيلة صارخة، أي أنها تعرف ماذا ترسم؟
لقد كانت كيم صاحبة التميز في إخراج فن شرقي قليل النظير، لذا تلقى لوحاتها اهتمام المختصين في هذا الشأن، ولا تزال المعارض الفنية في بلادها وغيرها تحترم أعمالها، فهي من القلائل اللائي عُرضت لهن أعمالٌ ثابتة في متحف كوريا المفاهيمي، ومتحف الفنون في فارنغهام الوطني، وغيرها من معارض الدول الغربية.. فقد تناولت المرأة و الطبيعة بالألوان المائيَّة فكانت قصة الحياة بمجملها غلافاً لكتابها الفني الغزير .