ندرك، نحن السايكولوجيين، أن أكثر المتضررين نفسياً وعقلياً وسلوكياً من الحروب هم الأطفال الذين يشكلون 50 % من شريحة المدنيين المتضررين من الحروب في العالم. وننبه هنا الى أن أخطر ما ستحدثه حرب الأبادة الجماعيَّة التي تشنها إسرائيل هو تأثيرها المدمر على الصحة العقليَّة للأطفال بعمر سنتين الى 18 عاماً، وتحديداً إصابتهم باضطراب (ما بعد الصدمة) الذي يبقى يلازمهم طوال حياتهم ولو بلغوا التسعين، فهم سيرون في يقظتهم وكوابيس أحلامهم مقتل والديهم ومحبيهم وهم مضرجون بالدماء، ويرون يداً هنا ورأساً هناك، كما لو كانت موثقة بفيلم سينمائي، ويستعيد آخرون كيف أجبروا على الهروب والنزوح والتشريد فراراً من رصاصٍ قاتلٍ أو صاروخٍ يدفنهم تحت الأنقاض.
ولا تقتصر تبعات الحرب الأليمة على الأطفال في آثارها النفسيَّة والعقليَّة فحسب، بل تشمل مجموعة واسعة ومتعددة الأوجه من التبعات التي تضرُّ بالعلاقات الأسريَّة، وعلاقات الطفل بأصدقائه ودائرة الشخصيات التي يتأثر بها، وأدائه المدرسي وتطور ونضج شخصيته، ونظرته السوداويَّة للحياة.
ففي بحث نشرته مجلة (World Psychiatry) للصحة النفسيَّة عام 2018، اتضح أنَّ هناك دليلاً كبيراً على وجود علاقة بين نسبة التعرض للحرب وتبعاتها، وكميَّة الضغوطات التي يعاني منها الأطفال وتعيقهم في مجالات التكيُّف المختلفة على مدار حياتهم بما في ذلك قابليَّة صحتهم العقليَّة والجسديَّة، وقدراتهم الشخصيَّة، سواء على التحصيل الأكاديمي أو في بناء العلاقات الاجتماعيَّة والحفاظ عليها. بمعنى أنَّ الطفل الولد والطفلة البنت إذا بلغا الثلاثين من العمر، فإنَّهما سيواجهان صعوبات في تأمين حياةٍ زوجيَّة مستقرة، وأداءٍ وظيفي يرضي مؤسسته التي يعمل فيها، وحياة اجتماعيَّة قائمة على المحبة والتعاون.
وتشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) إلى أنَّ التعرض للعنف المنظّم والأمراض النفسيَّة والعقليَّة المترتبة عليه يعمل بمثابة محفزٍ للعنف المنزلي وسوء معاملة الأطفال، إذ قد تسهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل التهيج والاندفاع والغضب، في ارتفاع مستويات إساءة معاملة الأطفال وضربهم.
وتسهمُ كل هذه الصعوبات في جعل الأطفال المصابين بصدمات الحروب أكثر صعوبة في التعامل مع والديهم وفي عمليَّة التربية، وذلك في الوقت الذي يقومُ فيه الآباء أنفسهم بتطبيق استراتيجيات أبويَّة أكثر عنفاً وإكراهاً بسبب تجربتهم المؤلمة في خوض الحرب. تؤكد ذلك دراسة حديثة وجدت أنَّ أطفال أسر الناجين من الحروب في سيريلانكا تعرضوا أكثر من غيرهم لصدماتٍ جماعيَّة وأمراضٍ عقليَّة تتسبب بدورها في ممارسة الأسرة مزيداً من العنف وسوء المعاملة بحقهم، حتى بعد منح الآباء الاستشارة والخدمة النفسيَّة اللازمة لعلاج صدمات الحرب لديهم.
فكيف ستكون الحال لدى مئات آلاف الأطفال في غزة الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون الى إبادة جماعيَّة في حربٍ همجيَّة انتقاميَّة لم يشهد مثلها التاريخ
المعاصر.
إنَّنا ندعو، من خلال جريدة “الصباح” العراقيَّة، مؤسسة العلوم التربويَّة والنفسيَّة العربيَّة التي تضمُّ معظم علماء النفس والأطباء النفسيين العرب، والمنظمات والجمعيات النفسيَّة العربيَّة الى التعاون في ما بينها في الوصول الى اعتماد استراتيجيَّة تشملُ المؤسسات التخصصيَّة ذات العلاقة بصيغة تحتضن أطفال غزة نفسياً وإنسانياً بما يؤمن ألا يكون أحبتنا أطفال غزة في المستقبل ضحايا
أبديين.