رضا المحمداوي
منذ سقوط النظام الصدامي عام 2003 إثر الغزو الأميركي للعراق، بدا الاضطراب والتخبط واضحاً في وضع اللبنات الأساسية الأولى، لشكل ومضمون البناء السياسي للنظام العراقي الجديد، فقد تمَّ تعيين الجنرال الأميركي المتقاعد (جي.غارنر) حاكماً عسكرياً على العراق بتاريخ 21 / 4 / 2003 ليعقبه (بول برايمر) حاكماً مدنياً بتأريخ 6/ 5 / 2003 ويبقى في سدة الحكم الأميركي للعراق لمدة سنة كاملة، وانتهى ذلك العام بتأسيس ما عُرف بـ( مجلس الحكم)، الذي دشن الحكم السياسي القائم على أسس القومية والطائفية ولغة المكونات الاجتماعية، حيث تعاقب 12 عضواً من المكونات الكردية والشيعية والسنية والتركمانية، وغيرها على حكم العراق لمدة شهر لكل عضو منهم وكانت الحصيلة سنة تداولية في الحكم، أدخلت العراق في نفق الديمقراطية المشوهة والهجينة، حيث التوافقية والمحاصصة ولغة المكونات المتعددة، مع غياب أو ضياع الحكم السياسي بهويته العراقيَّة الوطنية الجامعة.
وطوال العشرين عاماً الماضية، بقيَّ النظام السياسي العراقي محكوماً بالأزمات والاختناقات السياسية المتفاقمة، وفي خضِّم هذا الوضع السياسي وأزماته المتلاحقة يمكن أن نطرح على أنفسنا أسئلة من مثل:
- كيف يمكن قراءة كتاب تأريخ الحكم الوطني في العراق بجميع حقبه ومراحله ونتائجه وإفرازاته بعد أكثر من مئة عام على تأسيسه؟
- وما هي أبرز المعطيات والدروس والعبر، التي يمكن إستخلاصها من ذلك التأريخ الطويل بما حفل به من انقلابات وعسكراتارية وحروب ومعاناة ودماء وضحايا؟
- وهل يعقل أنْ يكون قرناً كاملاً من العمل السياسي العراقي الوطني وبجميع عوامله وخصائصه قد ذَهَبَ أدارج الرياح؟
ولا بُدَّ من التذكير هنا أنَّ الحكم الوطني الذي تأسَّس في حقبة الاحتلال البريطاني للعراق بتنصيب الملك السعودي فيصل الأول ملكاً على العراق عام 1921 لمْ يكنْ ليكون لولا (ثورة العشرين) عام 1920 وهي الثورة الشعبية، التي قام بها الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني، الذي بدأ عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى(1914 - 1918) وخسارة الدولة العثمانية لتلك الحرب.
هذا الحكم الوطني كان قد أنتج الدولة العراقيَّة الحديثة على مدى قرن كامل لكنَّهُ انتهى إلى ديكتاتورية (صدَّامية) بغيضة، جثمتْ على صدر الشعب لما يقرب من ربع قرن من ذلك القرن السياسي العراقي، ولمْ يتخلصْ منها الشعب العراقي إلاّ بالغزو الأميركي عام 2003 الذي أسقط النظام السياسي والدولة القديمة ومؤسساتها وَشَرَعَ بعد ذلك بتأسيس حكم وطني جديد برعاية أميركية، جاءتْ بقادة سياسين جدد ممن كانوا يوصفون بأنهم من معارضي النظام السابق خارج العراق، وفرضت النظام الديمقراطي فرضاً على مجتمع مرهق أنهكتْهُ الحروب وأصابهُ الحصار الاقتصادي الأميركي، خلال التسعينيات بالشحوب والهزال والضعف العام، وهيكل دولة مثخن بجراح تلك الديكتاتورية المقيتة.
- دورة زمنية عراقية أعادتْ نفسها مرةً أخرى وأعادتْ إلى الأذهان المقولة الشائعة بأن التأريخ يعيد نفسه، لكن النتائج هذه المَرَّة كانت مخيبة للآمال ووضعت البلاد على حافة الهاوية والانهيار في أكثر من مفصل خطير وحساس في تاريخ الدولة العراقيَّة الجديدة، برعاية القوة الأميركية الغاشمة، ومن تلك النتائج ظهور التنظيمات الإرهابيَّة المُتشددة وهجماتها على مدن ومحافظات العراق بعد الاحتلال الأميركي مباشرةً، حيث أزهقت أرواح الأبرياء وسالتْ دماء المواطنين العُزّل وعمَّ الخراب وغابَ الأمن والأمان في تلك المحافظات، وكانت سبباً في إشعال نار الاقتتال الطائفي بين مكونات المجتمع العراقي في الأعوام
2005 - 2007
ومن تلك النتائج السياسية السلبية التي زرعت الخيبة والخذلان في نفوس العراقيين، هي الأزمات البنيوية العميقة، التي يعاني منها النظام السياسي الجديد المضطرب، وسبَّبتْ له العديد من الانسدادات والاختناقات السياسية الخطيرة ووصلتْ إلى حد المواجهات العسكرية بين الفصائل المسلحة التابعة للأحزاب والقوى السياسية الماسكة بالسلطة، وتحت راية النظام الديمقراطي المأزوم.
واحدة من تمظهرات أزمة النظام السياسي وطبقته الحاكمة كانت - وما زالت- تتمثل بالتدهور العام لأحوال المجتمع وانخفاض المستوى المعيشي له وتردي الخدمات الأساسية، والتي كانت هي الأسباب والدوافع الرئيسة لاندلاع انتفاضة تشرين عام 2019 ولكن سرعان ما ارتفع سقف مطالب تلك التظاهرات الخدمية إلى مطالبات بتغيير النظام بل والدعوة إلى إسقاطه، لكن مواجهة تلك الإنتفاضة والطريقة الدموية في التعامل معها قد أدخلتْ النظام السياسي في أزمة أكبر، فقد وَجَّهَ القائد العام للقوات المسلحة رئيس الورزاء آنذاك عادل عبد المهدي ماكنته العسكرية الرعناء إلى الصدور العارية للمتظاهرين، وأطلق الرصاص الحي المزهق للأرواح ورمى القنابل المسيلة للدماء وأتَّبعَ سياسة الحديد والنار والقتل والقمع بهدف إنهاء تلك التظاهرات الاحتجاجية، لقد سَقَطَ عادل عبد المهدي وسقطتْ حكومته.. ولكن هل انتهت انتفاضة تشرين سياسياً؟.