قراءة في ديوان {الناسوت»

ثقافة 2019/05/11
...

د. ثابت الآلوسي
 
يمكن القول إن البؤرة المركزية التي تدور حولها اغلب قصائد ديوان (الناسوت) للشاعر العراقي جمال جمعة هي رثاء الإنسان وتأثير عذابات الخلق، منذ وطأ الإنسان الأرضَ، سواء عبر تحولات الطبيعة، أو مشيئة الاقدار، ليست مرثية الإنسان العراقي الذي عاش الحروب والمنافي وانكسارات الواقع فحسب، وإنما عذابات الإنسان في كل زمان ومكان، من أول الخلق وإلى يوم الدِّين: 
 
“تلك دماؤنا عادت تذكِّرُنا/ بأقدارِ ابنِ آدمَ
والتي كانت مهيّأةً لنا/ قبل الخليقةِ
قبل تأسيسِ العواصمِ” ص 60
إنها الأقدار التي رسمت مصائر الناس ومآلاتهم ومساحات اختيارهم أن يعيشوا في كدّ ومعاناة واختيارات صعبة يصعب تجاوزها والإفلات منها، فغامت سبل الخلاص، ولم يحسن الإنسان الاختيار، فاختار من السُّبُل ما يدمّر نفسه:
 
“إنّا ابتدأنا قبل تأسيس العواصمِ/ بالحصاد الآدمي.
من غابر الأيّامِ والرأسُ المُجندَلُ يرتمي/ من كتفِ هابيلٍ إلى قَدَمي” ص 79
هذا الإنسان الذي وُهِب الحياة وامكانات العيش وجمال الكون والطبيعة ومنح القدرة على بناء المدائن والسدود ومظاهر المدنية، غير أنه لم يستثمر ذلك في ترسيخ قيمه وتطوير سبل سعادته، وإنما انشغل بتدمير الغير واسقاط الآخر، فدمّر نفسه:
 
“هذا الذي شاد المدائنَ والسدودَ/ وعمّرَ الدنيا
وهدّمَ داخله” ص 55
نبرة الأسى والحزن التي تطغي، أغلب قصائده صيحة بوجه كل الشرائع والأعراف والتقاليد ومنجزات العقل الممعن في التدمير، لأنها لم تنقذ إنسانية الإنسان:
 
“ وتجَمجَمَتْ أشجارُنا/ وتَبَرعَمَتْ عينا 
القتيلِ/ وبعدما جثثاً تركناهمْ/ رفعنا كأسَنا نخباً/ ولم نمسحْ دمَ الإخوانِ/ عن نصلٍ/ بَلِيلِ “ ص 62
هذا ما آل اليه الإنسان، سعي مستمر لتدمير الآخر، وإيجاد كل الوسائط والسبل لإسقاطه، وما أن يرى نافذة للخير، إلا سعى لإغلاقها واختراع أنواع السلاسل والأسلحة لتخريبها:
 
“ دخلَ ابنُ آدمَ داميَ الأيدي/  ودنَّسَ هيكلَهْ.
ماذا سأفعلُ للذي ما أنْ يرى الأعناقَ شاخصةً
أقامَ المقصلَةْ.
ومتى رأى الأقدامَ دائبةً/ تصلصلُ في يديه السِّلسلةْ “ ص 80
لغة القصائد حرّة، وهّاجة، متدفّقة حافلة بالإيقاع الموسيقيّ:
 
“ خلخالُ المرئيّات الراننُ في عين الشاعر”
“موشورُ الضوءِ المُتموسق في صمتِ العدسات”
وجرأة في الاشتقاق بما هو غير شائع أو مألوف:
“ مَذْهَبتْ ألوانَها وتَدَرْهَمت” ص 77 
“أُدوزنُ حسرتي” ص 17
“ويدي تدعوني أنْ أَتَثَعَبن” ص 90
“وأُبَرثنُ كفّي المدفوعة” ص 90
“أقلمتُ نشيدي” ص 98
كما أنه استخدم مفردة “طعج” في خاصرتي ص 51، ذات البعد المحلي. أغلب صوره تنمّ عن مخيلة خصبة، تمتاح من خبرة واسعة وثقافة تفاعلت مع التراث ومنجزات الثقافة العالمية المعاصرة:
“ طوّقتْ كتلُ الثلوجِ براعمي/ والنسغُ سائر” ص 15
“تفتّحت الدفلى في أشجار الجلادِ/ وسُمِّدت الأرض بأحداق القتلى/ وكنتُ شهيداً أعمى” ص99
تشيع في صوره الاستعارات، وغالباً ما تفضي إلى دلالات كنائية وتتسع المقاطع، هاربة من المباشر لتفضي إلى معادلات موضوعية، يشد قصائده غالباً بناء متماسك، يستمر السرد في مقاطع والنثر في مقاطع أخرى، لتصبح عتبات انطلاق ورافعة باتجاه تصعيد الرؤية، وأحيانا تتدفق صوره تحت نزعة التداعي والاستطراد، ربما يمكن الاستغناء عن بعضها.
 
وقد تكون بنية المتضاد هي الأهم في بناء قصائده واطلاقها إلى فضاء الابداع:
“هذا الذي شادَ المدائنَ والسدودَ/ وعمَّرَ الدنيا وهَدَّمَ داخله” ص 21
“نحن الورثنا الأرضَ/ من أيدي الإلهِ،/ الربُّ سلَّمها لنا/ لنسوقها نحو العدم”
“وبعدما جثثاً تركناهم/ رفعنا كأسنا نخباً”
“ماذا سأفعل للذي ما أن يرى الأعناق شاخصةً/أقامَ المقصلةْ/  ومتى رأى الأقدام دائبةً/ تصلصلُ في يديه السلسلةْ”
“سقطَ الذين نحبّهم صرعى/ بسكيني التي أعطيتها للقاتلين”
 
هذا غيض من فيض، أغلب قصائده قامت على نية التقابل والتضاد، ما منح قصائده بعداً درامياً لافتاً، ها هو الإنسان يشيد المدائن لكنه هدم داخله، سلّم الله لنا الأرض لإعمارها فسقناها إلى العدم، وبعد أن قتلنا الآخر (ربما هو صديق) رفعنا كأسنا تشفياً وابتهاجاً، وقت وطأة الشك والنرجسية سرعان ما أقام السلاسل والقيود، ولم يسقط الذين نحبهم صرعى إلا بأسلحة المقربين.
قصائد “الناسوت” للشاعر جمال جمعة استثمرت الإيقاع باشكاله استثماراً مذهلاً، لا بوصفه حلية خارجية يمكن الاستغناء عنها، ولا تطريباً موسيقياً زائداً، وإنما بوصفه عنصراً فاعلاً في بناء قصائده، استثمر التفعيلة، واحتفى بالقافية أحياناً، ونوّع في تشكيلات الإيقاع الخارجي والداخلي، حتى غدت أغلب قصائده ذبذبات جمالية بالغة الرهافة..
وعبر رؤاه الجريئة، وجماليات التركيب وتشكيلات الايقاع، استطاعت تلك القصائد أن تعبر متوهجة إلى المناطق الأبعد في وجدان الإنسان.