الكتابة في زمن الأزمة

آراء 2023/10/31
...

  مهدي القريشي 


القراءة المتأنية لما حدث ويحدث في المنطقة العربيَّة، وآخرها ما حدث في غزة من دمار وتشريد وقتل للبشر بلا رحمة ولا إنسانية، ومن ثم تجويعهم ليرضخوا للشروط المجحفة، وأولها النزوح عن ديارهم، شعب لم يعش باستقرار منذ التقسيم إلى يومنا هذا، فمنهم من اختار النزوح إلى ارض الله الواسعة، ومنهم من بقي متشبثاً بأرضية بأمان قلق وافق بلا أمل ما دام أمامه عدو جبار متغطرس، لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية، اذًا كيف تكون الكتابة على ضوء الكارثة وفي الظلام؟ هذا هو السؤال الجوهري المحاذي للدمار والحروب وفي ظل الكوارث في المنطقة العربيَّة، التي لا تنتهي فصول وجوهها المتعددة من حصارات إلى حروب إلى دمار إلى تهجير إلى سحق إنسانية الإنسان الذي هو أثمن رأس مال كما قال ماركس.

الكتابة في زمن الانحطاط القيمي والأخلاقي، وفي زمن هو الظلام وبأستئناسه بالأجواء المريحة التي، هيّأته له الظروف بكل تجلياتها منها الاستبدادات، التي لا تنتهي والثورات والانتفاضات، التي تحولت إلى تدمير واضطهاد برؤية حضارية ديماغوجية ترش الرماد في عيون معجبيها، واستباحة من لا يؤمن بتاريخ اصبح للذكرى وخارج صيرورة الحياة الحديثة والتكنولوجيا المتطورة والتقنية الحديثة.

الكتابة مناورة غير محسوبة في هذا الزمن وفي هذا التاريخ بالذات، كيف تريد أن تكسب حريتك في الكتابة والأمة الموعودة ممزقة بعد أن كانت حضارة وتاريخا (رغم مآسيه الكارثية)، ومدن عامرة، سأستعير من الفيلسوف الألماني من اصول يهودية (تيودور ادورنو) السؤال الذي طرحه بعد الحرب العالمية الثانية، حول معنى الكتابة بعد (أوشفيز) والمجازر التي ارتكبها المتحضرون تجاه بعضهم، وجوابا على سؤاله أن سؤالك ما زال محتفظا بمعناه الأخلاقي والإنساني، حتى أصبح بديهية لدينا، ففي كل حدث قهري نقول ماذا بعد ونبقى نكرر ماذا بعد على أساس أننا استوعبنا الدرس وما يحدث في غزة هو الدليل، هجوم كاسح (للمتحضرين) وادعياء الحداثة والتطور، على شعب يروم العيش بسلام ودعة على أرضة بدون مزعجات الحرب والقتال وغرباء يدخلون ديارهم بدون تاشيرة جواز، ما الجديد في (أوشفيز)؟ في كل مناسبة عندنا أوشفيز. 

يصف في هذا الصدد الكاتب والشاعر العماني سيف الرحبي (ازاء هذا الجفاف والقحالة المُظلمة أدى إلى موت الضمير واضمحلال مشاعر التعاطف الإنساني، الذي ساهم في إطفائها هيمنة “الصورة” المكررة النمطيّة، التي محت الفرق بين الواقع الدامي على الارض بين خيال الافلام والمسلسلات الفنتازية ).

الكتابة لا ترتقي إلى الفعل الحياتي في مجتمعاتنا العربيَّة المبتلية بالانحطاط والكورث والظلام، فبعض الكتابات بقيت خرساء تنتظر الاشارة وماهيتها، من الراعي، والتوقيت والزمن، وحتى يصل الأمر لعدد الكلمات، كتابة غير حيادية منحازة إلى الأيديولوجية الرثة تكرس مفاهيمها لتبرير فعل القتلة، وإن تجاسرت! وجاملت وتفقهت تنتج كتابة باردة كتمثال لا يشعر بالأنواء. 

الكتابة الحقيقية التي نريد أن يقفز كاتبها إلى وسط الركام، ويبحث من بين جمراتها على بكاء طفل، لينتشله أو صوت رجل كهل أو امرأة عجوز أو شاب، نذر نفسه للدفاع عن بلدة ضد متغطرس يدعي الحضارة.