ذكرى عالم واسع في غرفة ضيقة

ثقافة 2019/05/11
...

عبدالزهرة زكي

((إنه يعيش في غرفة صغيرة، ضيّقة، لم يعد العالم بالنسبة له غير ذكرى بعيدة شاحبة)). هذه جملة مستلّة من مفتتح قصة قصيرة للكاتب لؤي حمزة عباس في كتابه الأخير (مرويّات الذئب)، إصدار دار شهريار 2019، حيث تتخذ النصوص في هذا الكتاب تسمية (خيالات قصصية).
 
في العادة أقرأ نصوص لؤي حمزة بطبيعة خاصة، إذ يكون فيها النص القصصي مشبعاً بروح شعري من دون أن تستبدَّ هذه الروح فتفرض منطقها على جنس كتابي آخر غير الشعر. الشعر غالباً ما يكون كائناً مدمراً، وذلك كلما كان في وسط تأليفي آخر سوى وسطه الخاص، لكن روح الشعر آسرة وقادرة على أن تبثّ من عمقها عطراً لا يُدرَك، ويحصل هذا فقط بالنسبة لكتاب مؤهلين تماماً لتضييف الشعر بأريحية وكرمٍ محكومَين بانتباه شديد لغواية هذا الضيف الآسر. وهذا حال يماثل مشكلة الإفادة من تقنيات السرد حينما يحتاج نصٌّ شعري إلى هذه التقنية ويعتمدها.
لؤي حمزة عباس كاتب قصة قصيرة ماهر في صيانة نص القصة، وهو أكثر مهارة في التقاط عبق العطر الشعري، روح الشعر التي تمضي بالنص حتى يستحيل إلى (خيالات قصصية).
أقرأ قصص لؤي بهذه الطبيعة، بهذا (المزاج) الذي تتطلّبه النصوص نفسها، إنما من قارئ مضت به القراءة والتجربة والحياة إلى أن لا يستنشق غير عطر الشعر، لا يتحرى غير هذا العطر، كلما كان في موضع 
القراءة.
كان ذلك مفتتحاً قصصياً من واحد من نصوص كتاب (مرويّات الذئب). وهو مفتتح يتقدّم بمنطق نثري خالص، لكنه يتضمن وعداً بما يفصح به من تقابل ما بين المكان الداخلي الضيق والآخر الخارجي المتسع، تقابل من العزلة والاندماج، وتقابل آخر ما بين الحبس والحرية وهو الأشدّ مفارقة.
هذه وعود، وليست وعداً واحداً، تنطوي ضمناً على وجوب أن يكون الشعر حاضراً، لكن النص قصصيّ، وينبغي أن يظل قصصيّاً، هنا امتحان الكاتب واختبار مهارته في تفادي طغيان محتمل للشعر من حيث تتأكد الحاجة إليه.
طغيان الشعر، في نصوص فنون أخرى غير الشعر، يجري التعبير عنه بالتخلي، بدرجات متغيّرة، عن تقنيات تلك الفنون وعن طبيعة لغتها، لصالح هيمنة تقنيات الشعر وبلاغاته. 
مهما كانت هذه الدرجة محدودة فإنها تظل طبيعة مشوِّهة للفن (المستفيد) من الشعر وحتى للشعر نفسه. القيمة الأعظم التي يمكن أن يغدق بها الشعر على نصوص فنون أخرى هي بعض من روحه، من رؤاه وخيالاته، لا من وسائله. 
نحن بصدد نصٍّ قصصي ينجح في تمثيل هذه الصلة المنتجة، وخيالات لؤي حمزة عباس القصصية في هذا الكتاب تعبيرٌ ينجع في هذا.
يحمل النصّ الذي استللنا منه استهلاله المذكور عنوان (البرعم). والبرعم نص يركّز بأكثر من حال طبيعة نصوص كتاب (مرويّات الذئب). 
يقدّم الكاتب بـ (البرعم) حكاية العائش في (غرفة صغيرة ضيقة) منعزلاً، عن (العالم الواسع)، ومتطلعاً إليه، إنما بروح المتصوّف الزاهد فيه. 
ما يأتي من هذا العالم الخارجي إلى الغرفة هو مصدر ذلك الكائن في معتزله؛ شيء من ضوء الشمس، يتسرب عبر كوة عالية، عصف رياح شديدة، صوت نقر مطر لا ينقطع، ثم طائر صغير يضيق بقسوة ذلك الخارج، برياحه ومطره، فيستجير بكوّة غرفة الكائن 
المعتزل.
هذه هي عناصر المكان والحياة والقصة في (البرعم). لا تجري الإشارة في القصة لأية نافذة أو باب في الغرفة، هذه غرفة في نص أدبي، لا في الحياة. 
واقعاً لا تكون الغرفة غرفةً من دون نافذة أو باب؛ الغرفة بلا نافذة هي سجن، تحدّثت عن هذا في كتاب (واقف في الظلام)، والسجن هو ما يعطّل الوظيفة المعتادة للباب مع وجود هذا الباب فيه، حيث يكون الأصل في وظيفة الباب هو الانغلاق والإمعان فيه، بينما انفتاحه يظل مناسبة قاسية لتكثيف حال الحبس.
يحصل كل هذا بلغة نثر رصينة وبسلاسة سرد حكائي متقن الوضوح والبساطة. ينشئ الكاتب بهذا طبيعة شعرية من دون اعتماد وسائل الشعر؛ في لحظة استجارة الطائر بالكوة الضيقة فإن مشاعر نزيل الغرفة الضيقة تتصاعد بالتعاطف مع طائر هو حبيس في ذلك العالم الاوسع ويسعى لحريته وأمانه من خلال غرفة ضيقة صغيرة، هذه بعض فحوى التقابل، في النص، ما بين المكانَين، الضيق والمتسع، المغلق والمفتوح.
أستعيد هنا قصيدة لمؤيد الراوي، وكنت قد كتبت عنها قبل سنوات هنا في (الصباح). كانت قصيدة بعنوان (زائر)، وهي تتحدث أيضاً عن طائر في الخارج رجل في غرفة، لكن الطائر في هذه القصيدة يأتي كل يوم وينقر على زجاج نافذة، بما يذكّر الرجل الماكث بالغرفة بخسرانه الفضاء الحر، فالقصيدة تنتهي هكذا: (هكذا/ يَسرقُ منّي/ هذا الطائرُ المبهمُ/ بجناحيهِ/ الهواء).. طائر لؤي حمزة عباس، بخلاف طائر مؤيد الراوي، كان يستجير بغرفة رجل القصة، وكان له أن يكافئ تعاطف هذا الرجل معه بأن يرمي، من منقاره، إلى كفّ الرجل بحبّة (صغيرة، غريبة الملمس، قرّبها الرجل من عينيه في الضوء الشحيح، وتأكد أنه لم ير مثلها من قبل).
تنعطف هذه الأُعطية بالحكاية، فيحلّ (في القصة عنصر جديد غير الغرفة الصغيرة الضيقة، والمطر، وذكرى الطائر، وصار بإمكان الرجل أن يحلم الآن، فلم يعد وحيداً). 
لقد بات مع الرجل في وحدته، أو محبسه، وربما حريته، برعمٌ صغير هو نتاج حبّة وضعها طائرٌ في كفّه واختفى، ووضعها الرجل في شقٍّ ما بين حجرَين من بلاط الغرفة فنمت الحبّة برعماً. 
هذا المنعطف هو التكثيف الشعري الآتي عبر روح الشعر كما بَلغته القصة بواحدٍ من (الخيالات القصصية) المتدفقة في 
(مرويات الذئب). 
فيما تقدم قصة (البرعم) نموذجاً لما يجاورها من نصوص الكتاب القصصية التي يظل الكاتب عبرها يختبر فيها وحدة الكائن كلما كانت بتماس، بصيغ مختلفة، بالعالم المحيط.