في أصول الفشل وتسويغه

آراء 2023/10/31
...

 جمعة عبد الله مطلك

ابتداء من الساعة الثامنة مساء تنبعث غريزة سياسية مقهورة للعرب عندما يتسمرون امام الشاشات في مسالخ وعي التحليل السياسي. والحقيقة فإن التحليل السياسي العربي طارئ يضاف إلى مشكلات الوعي العربي المزمنة، وأولها علاقة الخصام بين الفكر والواقع. لكن الحقيقة لا تقتصر على خلق التحليل السياسي ورجالاته، الذين اصبحوا نجوما ينافسون بل وتتعدى ذلك إلى وظيفة الدولة العربية الحديثة، التي انكشف ضعفها البنيوي وعجزها المستدام في مناسبات عدة أهمها حرب حزيران 67 وكذلك مالات الربيع العربي.

هذه الدولة الكسيحة والمتجذرة في عمق الثقافة والوعي العربي لا تحسن غير شروط البقاء لسلطاتها المتغلبة، وكان العلامة ابن خلدون قد فصل في ذلك ببراعة.

التطور الحالي في فلسطين يكشف مرة أخرى حقيقة هذه الدولة العربية والقوى التي تتحكم بها.

مثل نكسة حزيران فإن منطق المفاجأة وضعف التوقع وعدم امكانية الرد من ثوابت هذه الدولة وقواها الانكشارية.

والثابت الموازي وهو شديد الاثارة، هو ما يغذيه إعلام الغرب عن اسرائيل والعرب وقوانين الصراع، وكأنه ينطلق من فكرة الجيوش الصليبية، التي يحرص الليبراليون والعلمانيون العرب على نفيها، كي لا تتداخل الأزمنة والمفاهيم. لكن الغرب الأوروأميركي بإعلامه وسياساته، يصر على خلط المفاهيم، وكان الرئيس الأميركي بايدن على رأس قمة هذه التناقضات، وهو يعلن أن إسرائيل واوكرانيا هي من صميم الأمن القومي الأميركي. ورغم صعوبة تحديد أساسيات هذا الامن القومي لكن النتائج كانت صادمة: فقد أمر الرئيس الاميركي ونخبته العسكرية بتوجيه حاملات طائرات إلى البحر المتوسط لحماية «الديموقراطية الاسرائيلية «، كما يقول من الوحشية العربية،÷ التي تحيط بها كما في خطابات الاعلام الغربي وما تنطوي عليه تصورات النخبة السياسية الأوروأميركية. 

نحن إذن أمام المسألة الشرقية، بكل تفاصيلها مجددا، وهي مفاجأة ليست سارة، إذ الحديث، الذي أشيع عن ترحيل فلسطينيي غزة إلى سيناء أو النقب، يمثل تحديا شديد الوقع لوعينا السياسي الضحل، فالجميع تطامن على رسوخ عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية باستثناء التبني الغريب للدوله العبرية وهو العالم الذي صاغته ظروف تلك الحرب وتوازناته، وعلى الرغم من أسرار المسألة الشرقية الكامنة في جذور عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الجميع تقريبا لم يكن يرى في العبث بحدود هذه الفترة، سوى اللعب بالنيران، وهو الأمر الذي قاد أوروبا وأميركا إلى تبني ودعم زيلنسكي في أواكرانيا بدعوى « قدسية « ما تعارف عليه العالم.

المفارقة الأخرى التي تسكن هذه السياقات أن محمد علي الكبير في مصر كان على وشك اسقاط العثمانية، وتهديد المشروع الغربي الذي كان يرى بإبقاء الرجل المريض دون دفنه مصلحة عليا للامبراطوريات المتساكنة، التي تخشى سقوط الرجل المريض نهائيا ودفنه.

مفاجأة من العيار الثقيل عصفت بمتعارفاتنا السياسية، عندما تحدث الرئيس المصري السيسي بثبات ووضوح ومن غير الاضطراب الذي رافق السادات في رحلته إلى القدس المحتلة عن نصائحه بتحويل الفلسطينيين إلى صحراء النقب، بدلا من سيناء بمساجلة تشبه وعود نابليون بإقامة دولة لليهود وإصرار ثيودور هرتزل على تحويل اليهودية من دين إلى قومية، حفاظا على مصالح أوروبا التي ضاقت ذرعا باليهود. 

تاريخ هش ودول مؤجلة خارجة عن التاريخ، هو حال الدولة العربية التي غالبا ما تسعفها بلاغتها الناقصة بـ « لجم « الجمهور الذي أخذ يحتفي الان ببطولات « الطوفان «. 

أول ما يجب طرحه للحديث عن هذه الغابة، التي صنعتها الحداثة الغربية، هو المنظمات الدولية فهذا الديكور، الذي يحتفي بفيتو الخمسة الكبار ليست له اهمية سوى مشاغبات بعض الأعضاء التي تحل غالبا بصفقة كواليس في لعبة أصبحت ليست مقنعة حتى لأصحابها. لكن البديل ليس جاهزا، فالنموذج الصيني لا يمتلك الجاذبية الكافية، لينافس مجموع القيم الاميركية «الليبرالية « على الصدارة وقيادة العالم هذا، على الرغم من تفكك الروابط بين الليبرالية والديموقراطية في الكونغرس، إثر خسارة ترامب بأكثر صور أزمة الغرب بروزا ووضوحا. 

هذا الغرب لما يزل يصر على حدود الغابة، التي صنعها في تسويغ الاستعمار والكولونيالية. 

لكن القوى المقصودة بالهيمنة والسيطرة لم تتجرأ حتى الآن إشعال عود ثقاب في تلك الغابة، التي تحمل بامتياز مضمون الحداثة الغربية في خروجها على قوانين الإصلاح والتنوير والنهضة، وركونها إلى منطق الاقتصاديات العملاقة، التي بحاجة دوما إلى أسواق الجنوب البائسة وموارده الأولية المستباحة.

لكن الحديث عن غابة الحداثة الأوروأميركية وهلامية منظماتها الأممية، لا ينفي ولا يشفع بالحديث عن قصور بنيوي عربي مديد وعميق التخلف والعجز، حتى اخذ دوره باطاعة تامة لقوانين الغاب واشتراطاته. 

إن عبارة السباق الصيني الاميركي، لا تعني لنا الكثير في العراق والدول العربية سوى استفزاز لوعينا السياسي ومتعارفاتنا اليقينية، التي لا تتحمل الشك المنهجي والنقد واعادة المراجعة. 

على أن كاتبا يحاول مس تلك الحدود المقدسة وهو يكتب عن « وداع العروبة «، هو نموذج العدمية السياسية الباحثة عن ليبرالية عربية، تحاول تسويغ رياح الغاب وقوانينه، ونفي الذات وإعدامها. 

الدولة العربية الحديثة تفتقر إلى مشروع تحولها من دولة حداثية إلى دولة حديثة، ومن دون ذلك سوف تبقى مجالا للصراع على السلطة بين النخب المتنفذة والأخطر عندما يصبح جهاز الدولة أداة بيد الصراعات الممتدة لعقود، بل ولقرون. 

ليست مشكلة نظرية القول إن العالم الذي تمت صياغته عام 1945 قد فقد قدراته على الضبط والتوجيه. ورغم شكلانية هذا الضبط لكنه بدا ضروريا لتحالف السلطات العربية المتغلبة مع النخب السياسية الأوروأميركية في علاقات تبادل المصالح عندما وفر الغرب لإسرائيل، ولمعظم الحكومات العربية غطاءً عن حقيقتها ودورها وشرعيتها. 

سوف نتفاجأ كثيرا ليس بحاملات الطائرات الأميركية، وهي تجوب المنطقة لحماية الدولة التوراتية، التي أقامها ملاحدة مرتبطون بالوكالة اليهودية، بل سوف نبقى في ساحة الدهشة وضعف الحيلة بعد أن غادرنا منطق الحداثة السياسية في مشروعاتها الكبرى، لضمان شرعية القوى السياسية وخلق ظروف الاندماج الاجتماعي.